القائمة الرئيسية

الصفحات

تدبر سورة الفاتحة : إياك نعبد وإياك نستعين

الحمد لله رب العالمين، الواحد الأحد، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولد، خلق فسوى، وقدر فهدى سبحانه وتعالى، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد بن عبد الله الذي أرسله بشيرا ونذيرا، ليعبد وحده ويكفر بكل ما سواه ، ثم الصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى جعلنا الله وإياك منهم أما بعد

نواصل بعد انقطاع مشروعنا لنتدبر القرآن، راجين من الله العلي القدير أن يتقبله منا وأن ينفع به من قرأه وشارك فيه ، وهدفنا منه كما أعلنا مرارا ليس فقط أن يقرأ القارئ تدبرنا بل أن يتدبر القارئ معنا الآيات وأن يشعر بنفسه في نون الجماعة حين يقول "وما أنزل إلينا" مستجيبا ﻷمر الله  سبحانه :
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) البقرة .

كنا قد وصلنا في تدبر سورة الفاتحة إلى الآية الرابعة "مالك يوم الدين" واليوم بعون الله سنتتدبر قول الحق سبحانه وتعالى "إياك نعبد وإياك نستعين" وكما اعتدنا نبدأ بمعنى الآية في اللسان العربي وفي القرآن ثم نتدبر الآية وذلك من خلال أسئلة توجيهية تساعدنا على توجيه أفكارنا نحو التدبر الصحيح للآية حتى نستنير بنورها وننعم برحمتها ونستبشر بها ونتعظ بها أيضا

في لسان العرب

إياك نعبد : أي أنت وحدك من نعبد
نعبد : من فعل عبد ومعناه : أحب ، أطاع ، انقاد ، خضع وذل
نستعين من فعل استعان ومعناه طلب العون

في القرآن العبادة تأتي بنفس المعاني السابقة الذكر

التدبر

إننا حين نقول في الصلاة أو خلال قراءة الفاتحة "إياك نعبد وإياك نستعين" فإننا لا نقرأ آية من القرآن فحسب بل إننا مع ذلك نعبر عن أنفسنا، ولذلك وجب علينا إدراك معنى هذه الآية وما يترتب عليها حتى لا نكذب حين نقولها.

إن هذه الآية مع كلمتها الأربع اشتملت على كل حياتنا وكيف نعيشها ومن نكون لذلك فينبغي الوقوف مع كل كلمة ومع كل معنى حتى نتأكد من تحققه فينا

إياك نعبد

المعنى الأول الذي سنأخذه هو معنى الحب وما يترتب عليه حين نقول إياك نحب .

إياك نحب أي أننا لا نحب سوى الله  سبحانه وتعالى فماذا يترتب على ذلك ؟

إن أي حب نشعر به تجاه أي شيء لابد أن يكون جزءا أو منبعثا من حبنا لله وإلا فقد كذبنا حين قلنا إياك نعبد بمعنى نحب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معناه لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .

نحب الله وحده فماذا بعد ؟

نحب الله وحده إذن فالله يحبنا ﻷنه سبحانه وتعالى لا يقابل الحب بالبغض فهو أكرم من ذلك ومتى صدقنا في دعوانا في حبه أحبنا سبحانه وتعالى، بل إنه سبحانه لا يوفقنا لحبه قبل أن يحبنا ولذلك قال في سورة المائدة
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) المائدة

نحب الله وحده لذلك نحب ما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه ميزة للمؤمنين لا يتحقق الإيمان إلا بها وذلك لقول الله  في سورة القتال مبينا سبب الكفر :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) القتال

فلا يمكن أن نكون مسلمين ونحن نبغض ما أنزل الله سواء كان ذلك بحجة اعتقادنا أن شرع الله لا يواكب العصر كما يقول كثير ممن ينسب زورا لهذه الأمة، أو بحجة أن ما أنزل الله لا يكفي لكل الحوادث ويلزم إكماله باجتهاداتهم كما يقول كثير ممن ينسبون زورا لعلماء هذه الأمة.

نحب الله وحده فنبغض معصيته فلا يجتمع في قلب امرئ حب الله  وحب معصيته ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به .

نحب الله وحده فنحب كل من أحبه وآمن به بدءا برسول الله ثم المؤمنين من بعده وهذا هو الولاء الذي لا يصح الإيمان إلا به .

نحب الله وحده فنبغض أعداءه أيا كانوا ولو كانوا آباءنا أو ابناءنا فقلوبنا له سبحانه لا ينازعه فيها أحد وهذا هو البراء الذي هو شرط في الإيمان .

إن بغضنا للكفار ليس نابعا من هوى، بل هو بغض بحق مربوط بعداوتهم لله متى زالت عداوتهم لله صاروا إخواننا الذين نحب، ولذلك فمع بغضنا لهم نتمى هدايتهم ونسعى فيها بكل جهد ممكن مقتفين بذلك أثر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

مخافة الإطالة نكتفي بهذا القدر المختصر في معنى الحب في إياك نعبد لنتطرق للمعنى الثاني وهو الطاعة .

إياك نعبد أي نطيعك وحدك فماذا بعد؟

نطيع الله وحده سبحانه وتعالى والله لم ينزل علينا سوى وحيه فلا مصادر للتشريع سوى وحيه سبحانه وتعالى وزهق كل الباطل الذي ابتدعناه من اجماع وقياس واجتهاد فكلها خارجة عن وحي الله سبحانه وتعالى صاحبها مشرك بالله ﻷنه يطيع آلهة أخرى يشرعون له ما لم يأذن به الله.

إن تصريحنا بطاعة الله وحده تسقط كل قناع وهذا الموضوع ﻷهميته تناوله القرآن مرارا وتكرارا ﻷنه لب الملة.

نطيع الله وحده فلا اعتراف بدساتير وضعية ولا احترام لها ﻷننا لا نطيع سوى الله .

نطيع الله وحده فكل حياتنا لله سبحانه فالقلب له بالحب والجوارح له بالطاعة وهذا هو الإسلام المطلق.

نطيع الله وحده فكل طاعة نطيعها لابد وحتما لابد أن تكون جزءا من طاعة الله سبحانه وتعالى ولذلك متى أمر آمر ممن أوجب الله طاعتهم بمعصية الله عصي ولا كرامة له.

نطيع الله وحده  فلا سلطان ﻷحد علينا سواه  وهذه هي الحرية وهذا هو الرقي .

نطيع الله وحده فنرتقي على الذات والشهوات الحيوانية وتزكى النفوس .

إياك نعبد أي أنت وحده من نذل ونخضع له فماذا بعد؟

لا نذل ولا نخضع إلا لله فتحقق العزة الحقيقية فلا سلطان لمجتمع علينا ولا عادات ولا عرف فكلها بالنسبة لنا هباء وجودها وعدمها سواء .

لانذل ولا نخضع إلا لله فمهما طغى المتجبرون وتكبروا يظلوا في أعيننا صغار أحقر من أن نقيم لهم وزنا وأقصى ما بأيديهم لا يثنينا عن ديننا ﻷنهم مهما بلغوا من أذى فلن يكون شيئا مقارنة بعذاب الله، ولنا في أصحاب الأخدود أسوة وكذلك في سحرة فرعون .

لا نذل ولا نخضع إلا لله  فمهما حاول شياطين الإنس والجن أن يشغبوا علينا ويصدونا عن ما جاءنا من البينات لا نلين ولا نستكين ونبقى مستمسكين بوحي ربنا لسان حالنا قول الله على لسان رسوله :
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) الأنعام

وإياك نستعين

إن قولنا إياك نعبد تمرد على كل طاغوت بدءا من هوى النفس مرورا بحاكم متأله وصولا لحبر سوء يحرف الكلم عن مواضعه، ولا سبيل لنا للصمود على قرارنا الجرئ والحازم إلا بعون الله سبحانه وتعالى فنحن لا شيء بدونه ولا ينقصنا شيء معه سبحانه.

إن إياك نعبد ليس قرارا سهلا صاحبه يبقى في مأمن من طواغيت الأرض، بل هو قرار بالمواجهة والمفاصلة لا يثبت المرء فيه إلا بتوفيق الله سبحانه و تعالى ومعيته فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من هو يخبر الله عنه  في قوله :
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) الإسراء

فما بالك بنا نحن في هذا العصر الذي تتقاذفه أمواج الفتن، لذلك فإياك نستعين شرط في تحقيق إياك نعبد.

أكتفي هنا بهذا القدر تاركا لك المجال في الغوص في هذه الآية العظيمة التي هي دستورنا حتى نلقى الله إن شاء الله.

وصل اللهم وسلم وسلم على محمد وآله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

فهرست المقال