القائمة الرئيسية

الصفحات

لقد تمت مراجعة هذا المقال في المدونة الجديدة وعنونته ب:

مصدر التشريع عند المؤمن

لقد رأينا في مقال سابق أن الإسلام هو تسليم النفس لله عز وجل وحده لا شريك له، كما رأينا أيضا الأدلة العقلية التي تثبت أن القرآن كلام الله عز وجل، والأدلة التي تثبت أن السنة وحي من الله عز وجل كالقرآن تماما، ومن ثم فإنه من الطبيعي والمنطقي جدا، أن يكون مصدر التلقي والتشريع الوحيد عند المسلم هو وحي الله عز وجل وحده، فلا آمر للمسلم غير الله عز وجل، وأوامر الله لنا محصورة في وحيه المنزل على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا نبي بعده.

رغم وضوح ما سبق وبداهته، إلا أن الله عز وجل أكد عليه مرارا في القرآن الكريم وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فقال جل من قائل: 

﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون﴾

﴿اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين﴾

﴿واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين﴾

وجعل الله الرجوع إلى وحيه حصرا عند التنازع شرط في الإيمان به وباليوم الآخر حيث قال: 

﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾

وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: 

من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. 

الحديث وتخريجه ورواته هنا.

لذلك اتباع الوحي حصرا ليس فقط من إلزامات الإسلام، وإنما فرق بين المؤمن والمشرك، فالذي عنده مصدر للتلقي غير الوحي مشرك بالله لأنه يطيع غير الله، وهذا مناف للإسلام نفسه.

لقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الأمر، فبمجرد إسلام أحدهم، يتنكر لكل ما كان عنده من ثقافة حتى يقرها الإسلام أو يغيرها، ويتوجه بإخلاص للوحي يستقى منه كل مفاهيمه وتصوراته، فيعرف من خلاله ذاته، وسبب وجوده، وكيف ينظر إلى الحياة الدنيا والآخرة، كما يتعلم منه كيف يسير علاقاته الاجتماعية، وكل شيء، فكان الواحد منهم وحيا عمليا يمشي على قدمين، ولذلك تحقق لهم وعد الله بالنصر والتمكين في ظرف وجيز جدا.

إن هذا الوحي شفاء لما في الصدور كما قال ربنا عز وجل: 

﴿يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين﴾

هذا الدواء لكي يعمل في القلب يجب أن تتحقق مجموعة شروط في هذا الأخير، منها أن يقبل على الوحي حصرا، فلا يقبل على شيء معه، فمن الشروط التي يجب تحققها في القلب أن يكون سليما من الشرك مقبل على ربه وحده لا يتلقى أي معرفة أو تصور أو أمر إلا منه سبحانه، فإذا تحقق هذا الشرط عمل دواء الوحي في القلب فيجعله سليما رقيقا منيبا، كما فعل مع الصحابة الذين كانوا قبل الإسلام يعيشون في جاهلية منقطعة النظير بقلوب وحشية قادرة على وأد البنات وهن أحياء، فلما أسلموا واقتصروا على الوحي صارت قلوبهم عامرة بالإيمان خاشعة لله، الواحد منهم يسمع الآية فلا يقدر أن يمسك عينيه من البكاء من خشية الله. 

وهذا الذي حدث للصحابة من تأثير الوحي ليس خاصا بهم، بل هو لكل المؤمنين فقد قال ربنا عنه: 

﴿وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا﴾

فلقد وصف الله وحيه، عدة أوصاف بالنسبة للمؤمن، في مجملها تجعل الوحي كاف للمؤمن في كل شيء فهو:

  • هدى:

﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين﴾

فماذا يحتاج المؤمن بعد الهداية للحق، وقد قال ربنا عز وجل:

﴿فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون﴾

  • مبين:

﴿الر تلك آيات الكتاب المبين﴾

فانتفى عنه الإشكال والغموض، ليستنير به المؤمن ويعيش وفقه تماما.

  • فيه بيان كل شيء:

﴿ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين﴾

فلا يحتاج المؤمن إلى ما سواه مطلقا، ففيه تفصيل كل شيء وبيانه.

فإذا كان القلب مؤمنا يعمل فيه شفاء الوحي كما دلت الآيات السابقة، أما إذا كان القلب كافرا معاندا ومريضا فإن الوحي يزيده كفرا وضلالا كما أخبر ربنا عز وجل في قوله:

﴿وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون﴾﴿وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون﴾

﴿ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين﴾

وهذا ما حدث معنا بالفعل، فنحن برغم ادعاء الإيمان إلا أننا نعتبر القرآن كتابا للترنم والتجويد، والحديث للترف الفكري، أما العلم فلا علاقة له بالوحي عندنا، فالذي يريد أن يتعلم دينه عليه أن يدرس المتون الفقهية الخاصة بمذهبه، فمنها يمكن أن يتعلم كل شيء في دينه، وعليه أن يحذر كل الحذر أن يفهم الوحي، أو يعمل به، فهو ليس مخولا أصلا لفهم رموزه، فالوحي خاص بالعلماء والمفسرين، ونحن العامة فقط نعتبره مصدرا للتبرك ليس إلا. 

هذا المعتقد الباطل عن الوحي سببه مرض القلب، حيث نعتبر أن الوحي ناقص ومشكل ولم يستوعب كل الشريعة ولا حتى عشر معشارها، حيث صرح بذلك إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في كتابه البرهان في أصول الفقه المجلد الثاني الصفحة 37:

ﻓﺈﻥ ﻗﻴﻞ: ﻛﻴﻒ ﻳﻜﻮﻥ ﺇﺟﻤﺎﻉ اﻟﻘﺎﻳﺴﻴﻦ ﺣﺠﺔ ﻭﻗﺪ ﺃﻧﻜﺮ اﻟﻘﻴﺎﺱ ﻃﻮاﺋﻒ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء ﻗﻠﻨﺎ اﻟﺬﻱ ﺫﻫﺐ ﺇﻟﻴﻪ ﺫﻭﻭ اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﺃﻧﺎ ﻻ ﻧﻌﺪ ﻣﻨﻜﺮﻱ اﻟﻘﻴﺎﺱ ﻣﻦ ﻋﻠﻤﺎء اﻷﻣﺔ ﻭﺣﻤﻠﺔ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻣﺒﺎﻫﺘﻮﻥ ﺃﻭﻻ ﻋﻠﻰ ﻋﻨﺎﺩﻫﻢ ﻓﻴﻤﺎ ﺛﺒﺖ اﺳﺘﻔﺎﺿﺔ ﻭﺗﻮاﺗﺮا ﻭﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﺰﻋﻪ اﻟﺘﻮاﺗﺮ ﻭﻟﻢ ﻳﺤﺘﻔﻞ ﺑﻤﺨﺎﻟﻔﺘﻪ ﻟﻢ ﻳﻮﺛﻖ ﺑﻘﻮﻟﻪ ﻭﻣﺬﻫﺒﻪ.

ﻭﺃﻳﻀﺎ: ﻓﺈﻥ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﺻﺪﺭ ﻋﻦ اﻻﺟﺘﻬﺎﺩ ﻭاﻟﻨﺼﻮﺹ ﻻ ﺗﻔﻲ ﺑﺎﻟﻌﺸﺮ ﻣﻦ ﻣﻌﺸﺎﺭ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﻓﻬﺆﻻء ﻣﻠﺘﺤﻘﻮﻥ ﺑﺎﻟﻌﻮاﻡ ﻭﻛﻴﻒ ﻳﺪﻋﻮﻥ ﻣﺠﺘﻬﺪﻳﻦ ﻭﻻ اﺟﺘﻬﺎﺩ ﻋﻨﺪﻫﻢ ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻏﺎﻳﺔ اﻟﺘﺼﺮﻑ اﻟﺘﺮﺩﺩ ﻋﻠﻰ ﻇﻮاﻫﺮ اﻷﻟﻔﺎﻅ ﻓﻬﺬا ﻣﻨﺘﻬﻰ ﻣﺎ اﺗﺼﻞ اﻟﻜﻼﻡ ﺑﻪ.

فبحسب الجويني وعلماء المذاهب النصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة، أي أقل من 1% من الشريعة، ولذلك فلا معنى عنده ومن تبعه من مرضى القلوب في الاقتصار على الوحي حصرا.

إن العميان في زماننا مرضى القلوب حين نسألهم لماذا لا تتعلمون دينكم من وحي الله عز وجل كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم، يجيبون بإجابة تبين مدى احكام الختم على قلوبهم، حيث يقولون إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا عربا أقحاحا ونحن لسنا كذلك، وهذا الإجابة لا معنى لها إلا إذا كانت كتبهم مكتوبة بألسنتهم لا باللسان العربي، فلما كانت كتبهم مكتوبة باللسان العربي، علم أن المرجح لها عندهم على الوحي شيء آخر ليس اللسان الذي يدعون، فما هو هذا المرجح حقيقة؟!

إنهم في الحقيقة يعرفون لسان العرب جيدا ولكن يمنعهم أمرين من دراسة دينهم من الوحي وهما: 

أولا أن الله جعل على قلوبهم أكنة لكفرهم، فصار الواحد منهم يقرأ الآية ولكنه لا يفهمها رغم بيانها ويسرها، فإذا قرأ كلام شيخه فهمه رغم كونه أكثر تعقيدا من الآية والسبب في ذلك أن الختم على قلبه إنما عن فهم الوحي حصرا.

ثانيا أنه إذا قرأ الوحي من أوله إلى آخره لن يجد فيه دينه الذي ورثه عن آباءه، فهو في الغالب يدين بمذهب معين، وأحكام المذهب لا توجد في الوحي وإنما في كتب المذهب، ومن ثم فالوحي زيادة على كونه غير مفهوم أصلا عنده، فهو لا يحوي ما يبحث عنه من آراء مجتهدي مذهبه.

لذلك أيها القارئ إذا أردت الإيمان حقا كما آمن الصحابة رضوان الله عليهم، عليك أن تنزع من قلبك كل هذا الخبث المتراكم عبر العصور، من كون القرآن خاص بالمفسرين لا يفهمه أحد سواهم، وأن الحديث خاص بالشراح، فهم وحدهم من لديهم التوكيل الحصري لفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليك أن تنزع كل هذا من قلبك وتعلم يقينا أن الوحي مبين كما أخبر الله عنه مرارا في القرآن، ولن يكون هذا الأمر سهلا، لأنه خلاف ما عليه العامة، ولكن يمكنك تحقيقه إذا صدقت مع ربك وساعتها ستقرأ القرآن بشكل مختلف تماما عن ما كنت تقرأه من قبل، فهذه المرة ستقرأه لأول مرة كرسالة خاصة من رب العالمين إليك أنت تحديدا، ستقرأه ليس فقط لنيل الثواب وإنما لتعرف ماذا يريد ربك منك، ومن أنت، وما هو هذا العالم الذي يحيط بك، كما أنك ستسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث إليك أنت تحديدا فتشعر به وتتعلق، وتحس باتباعه فعلا، فتطمع أن تكون ممن يحبهم الله لقوله:
﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم﴾
وحينها فقط يبدأ دواء الوحي في العمل في قلبك فيزيل الأكنة شيئا فشيئا وينزع الغشاوة عن بصرك والوقر من آذانك فترى نور ربك الساطع الذي لم يره العميان أبدا.
حينئذ يمكنك أن تقول حين تسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد الله الذي جاءنا بالبينات والهدى فصدقناه وآمنا به واتبعناه، كما جاء في حديث أسماء، لأنك فعلا أصبحت تجد الوحي بينات وهدى لا مجرد طلاسم لا يفهمها إلا المفسرون كما كنت من قبل.

author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

فهرست المقال