القائمة الرئيسية

الصفحات


الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، والصلاة والسلام على الداعية إلى ربه بإذنه، والهادي إلى صراط مستقيم، وبعد

رأينا في المقال السابق من هذه السلسلة، كيف تحققت الآيات تلو الآيات، وكيف بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإيمانهم أعلى درجات الكمال البشري، فحققوا في الفتح الإسلامي ما يعجز المرء عن وصفه، حيث دخلت شعوب بأكملها في دين الله، وتحولت بين عشية وضحها من أعداء الله المحاربين لدينه، إلى جند الله الذين يتسابقون في بذل أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، في مشهد يتيم في التاريخ لا مثيل له إطلاقا.

ليس بعد الكمال إلا النقصان، ولقد بلغ أصحاب رسول الله بدولتهم الكمال ولا شك، واستمر الأمر سنينا، وكان من سنة الله أن نفوس البشرية مختلفة، ودوما هناك شواذ يثبتون القاعدة، والتي تقول أن كل الشعوب التي فتح الصحابة رضوان الله عليهم أراضيها دخلت في الإسلام طواعية وقاتلت في الصفوف الأمامية في جيوش المسلمين، وحملت أمانة بلاغ الدين فكان جل علماء التابعين عبيدا وموالي من تلك الشعوب التي فتحت أراضيها.

تلك هي القاعدة، ولكن كما لكل قاعدة شواذ، فلهذه القاعدة شواذ أيضا، هؤلاء الشواذ بالرغم من قلتهم كان لهم الأثر البالغ في صفوف المسلمين، فقد كانوا وراء قتل عمر رضي الله عنه ووراء الفتن التي قامت بعد ذلك. 

لقد فتحت بلاد فارس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هذه البلاد التي عرفت حضارة الفرس العريقة التي تمتمد لمئات السنين، هذا الفتح العظيم حول سكان هذه الامبراطورية سابقا إلى مسلمين مخلصين في جلهم، فلم يسعوا إلى إضعاف الدولة الإسلامية أو رد سلطان كسرى، ولم يسعوا لقتل الخليفة والذي كان أمرا سهلا نظرا لعدم توفر الحماية له، بل على العكس من ذلك أسلموا وحسن إسلامهم وقاتلوا مع المسلمين، باستثناء أبو لؤلؤة المجوسي ومن حرضه، فقد قرر قتل عمر رضي الله عنه غدرا، فكانت تلك الحادثة هي أول سيئة يقترفها أهل البلاد التي فتحت حديثا.

إن الناظر بتمعن لما حدث بعد ذلك من فتن في عهد عثمان انتهى بقتله رضي الله عنه، وما حدث بعد ذلك بين علي ومعاوية، يدرك أن هناك أياد خفية تحرك هذه الفتن وتسعى لخلق القلاقل، كما أن عدم التفقه في الدين الكافي للشعوب الجديدة، وتأثرها بماضيها ساهم بشكل كبير في ظهور أول الفرق الضالة التي عرفتها الأمة وهي 

فرقة الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه في قضية التحكيم، غير مدركين لجهلهم أن التحكيم بمعنى الصلح كالذي كان يسعى له علي ومعاوية رضوان الله عليهم كان مما أباحه الله ورغب فيه، هذا الجهل نتج عنه سفك دم كثير استمر سنينا بعد ذلك

فرقة الشيعة التي بدأت نواتها في ذلك العصر، ثم ساهمت الأحداث السياسية والجهل بالدين إلى تحولها من قضية سياسية إلى دين جديد تماما هو خليط بين الإسلام والوثنية الفارسية التي كانت دين أغلب من تشيع قبل الإسلام.

على نقيض الخوارج ظهرت فرقة أخرى هي المرجئة الذين كان لهم أسوأ أثر في الأمة كما سيظهر فيما بعد، فهؤلاء دعاة الجهل والتحلل من الدين بحجة أن العمل ليس شرطا أصلا في الإيمان وإنما هو فضلة كما يقول غلاتهم، أو شرط كمال كما يقول بعضهم، هذه الفرقة رغم قلة أفرادها في البداية إلا أنها كانت جذابة لكل من أراد أن يتخلص من التكاليف الربانية وهؤلاء يتزايدون يوما بعد يوم نظرا لضعف التربية الدينية التي تلقاها أغلب الشعوب الجديدة.

ظهرت فرقة أخرى لا تقل خطرا عن سابقاتها وهي فرقة القدرية، خطورة هذه الفرقة في كونها تنسف ركانا من أركان الإيمان، ولكن المنتسبون إلى هذه الفرقة ظلوا قلائل جدا يقتصرون على بعض الشخصيات العلمية.

ينبغي التنبيه أننا في هذا البحث الذي نحاول فيه مراجعة التاريخ الديني لهذه الأمة وأهم محطاته، نعاني من شح في المصادر المتخصصة، فمثلا باستثناء الفرق التي كان لها تأثير سياسي في التاريخ الإسلامي كالخوارج والشيعة، لن نجد مصادرا تحدثنا عن تاريخ بقية الفرق، لذلك اعتمدنا على البحث في تراجم الرجال والذي يعطي صورة عن الفرق الدينية السائدة آنذاك، وهذا ما جعلنا ندرك أنه كان في تلك الحقبة من تاريخ الأمة، مرجئة وقدرية دخلوا في رواية الحديث، وإلا لما أمكننا الاطلاع على وجود هذه الفرق أساسا. 

بالرغم من ظهور هذه الفرق، إلا أنها كانت منعزلة متميزة عن بقية الأمة كحال الخوارج، أو في طور التبلور كما هي حال الشيعة، أو قليلة جدا كحال القدرية والمرجئة، مما يعني بقاء الغالبية العظمى من الأمة على الإسلام كما أنزل من رب العالمين، وفية بعهد الله وهو الإيمان به عز وجل، والسمع والطاعة لله ورسوله، مما جعل عهد الله لها بالنصر والتمكين يبقى كما كان، وهذا ما حدث بالفعل، فبالرغم من الفتن التي عصفت بالأمة في تلك الحقبة إلا أن الأمة بقيت منتصرة وراية الجهاد خفاقة تفتح البلاد تلو البلاد وإن بوتيرة أقل سرعة من ذي قبل، مما يعني أن هذه الأمة لن يضرها شيء مهما بلغت خطورته إذا تمسكت بإيمانها، فهذه الفتن التي ذهب ضحيتها آلاف المسلمين، لم تضر الأمة وظلت الأمة صاحبة الريادة تتسوع على حساب الدول الكافرة.

author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

فهرست المقال