القائمة الرئيسية

الصفحات


الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، والصلاة والسلام على من بعث داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبعد

نقف اليوم مع سمة هامة من سمات دعوة الأنبياء، قليل هم الذين ينتبهون لها، لذلك أعرني أيها القارئ اهتمامك فما ستقرأه هنا من الراجح أنك لن تقرأه في مكان آخر.

قبل الدخول في صلب الموضوع هناك مقدمة يجب أن نتفق عليها، وهي أن وظيفة الرسالة هي وظيفة يخبر الرسول فيها بالأوامر ذات الطابع التشريعي، تمتاز أوامرها بالبقاء كلما تهيأت ظروفها ملزمة للمؤمنين إلى أن تقوم الساعة، مثلا يأمر الله بصلاة العصر أربع ركعات كل يوم بالنسبة للمقيم، وركعتين بالنسبة للمسافر، هذا الأمر أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل، في المقابل وظيفة الإمارة بمعنى أمير المؤمنين، هي وظيفة تنظيمية، الحاكم ملزم فيها بالأوامر الصادرة عن رب العالمين، وله الحرية في المسائل التنظيمية، التي تركها الشارع له.

إذا اتفقنا على ما سبق، ولا أعتقد أن أحدا يمكن أن يعترض عليه، يمكن أن ندرك بوضوح كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمارس الوظيفتين في المدينة، فهو الرسول المخبر عن الله، وهو أيضا أمير المؤمنين الذي يتخذ القرارات التنظيمية، وكان أيضا القاضي الذي يحل النزاعات بين المتنازعين، هذا أيضا لا إشكال فيه، فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميرا لجماعة المؤمنين في مكة وهل كانت للمؤمنين جماعة في مكة أصلا ؟!

إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في طبيعة أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين في مكة، هل كانت كلها تشريعية، أم أنه كان بعضها تنظيمي تساس به الجماعة المؤمنة آنذاك ؟!

إذا نظرنا للأوامر الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العهد المكي، نجد أن كثير منها أخذ طابعا تنظيميا بحتا، مثال ذلك الأمر بكتم الإيمان في بداية الأمر، والأمر بالاجتماع في دار الأرقم بن أبي الأرقم وكذلك الأمر بالخروج في صفين والطواف بالكعبة معلنين إسلامهم ومعلنين ميلاد الجماعة المسلمة الفتية، كل هذه أوامر تنظيمية تخص ذلك الظرف وتلك الجماعة، فليس في شعائر الإسلام دار اسمها دار الأرقم بن أبي الأرقم، وليس في شعائر الإسلام الخروج في صفين والطواف بالكعبة على ذلك النحو، فهذه الأوامر صدرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته أمير المؤمنين وليس بصفته رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن صفة الأمير للمؤمنين عند النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي، لم تكن بذلك الظهور التي كانت به في المدينة، وذلك لكونه صلى الله عليه وسلم في مكة لم يكن عنده قوة ولا شوكة يحمي بها جماعته، ومن ثم كانت أوامره ذات الصبغة التنظيمية قليلة جدا مقارنة بها في العهد المدني.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدأ الدعوة إلى الإسلام، بدأ تشكيل الجماعة المسلمة في نفس الوقت، فالداخل في الإسلام كان داخلا في جماعة المسلمين، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مطاعا في أوامر التعبدية وحسب، بل وفي الأوامر التنظيمية أيضا، والبيعة له مندرجة في الشهادتين، هذا الأمر مهم جدا كسمة أساسية في دعوة الأنبياء.

إن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن جهدا فرديا غير منتظم في إطار جماعي ينمو مع الزمن، ويتأقلم مع الظروف، بل كانت في إطار جماعة منظمة، ففي بداية الأمر يأمر كل فرد بالتكتم على إيمانه، ويجمع المؤمنون الجدد في دار الأرقم بن أبي الأرقم ليزدادوا إيمانا ويشعروا باللحمة مع الجماعة التي تكبر شيئا فشيئا.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كون جماعة مسلمة، ولم يكون تنظيما إسلاميا، بمعنى أن المسلمين كانوا مجتمعا متكاملا فيه الرجال والنساء والكبار والصغار والأحرار والعبيد، مجتمعا مصغرا هو النواة للأمة مسلمة، وهذا بخلاف التنظيمات التي تضم فقط عينة من الناس دون غيرها كالتنظيمات الجهادية، لأن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إنشاء أمة مسلمة، بما تحمله كلمة أمة من معنى، أمة تملك مقومات البقاء الذاتية، للرجل فيها دور، وللمرأة فيها دور، وهذا ما على المسلم اليوم السعي لإنشاءه

إن إنشاء الجماعة ليس فقط حاجة تنظيمية، بل حاجة دعوية إيمانية أيضا، فالمسلم الجديد ينضم لإخوانه المسلمين الذين آمنوا من قبله، فيثبتونه ويشعرونه بأنه ليس وحده في الطريق، مما يطمئنه ويزيد من ثباته، بينما عدم وجود الجماعة المسلمة يعني وأد الدعوة في مهدها، فحتى لو نجح الداعية في أن يجعل أحدهم يسلم، هذا المسلم الجديد لن يلبث أن تعصف به رياح الشبهات التي تتقاذف الناس كل حين فيرتد على عقبيه كما هو مشاهد في أغلب الأحيان، ولذلك نجد أن الطواغيت في كل مكان لا يأبهون للعمل الفردي، لأنهم يعلمون أنه عمل مبتور يخالف سنن الله في العمل المثمر، بينما يشتد غضب الطواغيت وترتعد فرائسهم إذا علموا أن تنظيما نشأ للدعوة إلى الله، لأن هذا التنظيم هو الخطر الحقيقي الذي تواجهه عروشهم، هذا الأمر من بين أمور أخرى جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بدعوته أمام صناديد قريش، وفي الوقت نفسه يخفي الجماعة المسلمة في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ولا يظهرها إلا بعد أن أيقن أنها عصية على الإبادة، فهو يعلم أن دعوته مهما أغاظت صناديد قريش إلا أنها أقل إغاظة لهم من أن تكون للمسلمين جماعة تدمر آلهتهم، وهذا ظهر جليا في تعاملهم معه ومع من أسلم بعد إعلان الجماعة المسلمة، حيث اجتمعت قريش وقررت مواجهة الخطر المحدق بها فسنت قوانين بموجبها يعذب كل فرد من أسلم من أهله حتى يرجع عن دينه، كما سنت المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية لاحقا، وهذه الخطوات لم تقدم عليها يوم كانت تعتقد أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة فردية ليست لها جماعة تتبناها.

إن المسلم الذي يتقفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة، عليه أيضا أن يتقفى أثره في تكوين الجماعة المسلمة التي تبدأ به وبمن يسلم على يديه، ويسوس الجماعة كما ساس رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعته، إلى أن يتم الفتح بإذن الله عز وجل ويعم الإسلام، هذا ما على المسلم فعله إن كان متقفيا لأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما إذا رغب عن اقتفاء أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم وادعى أنه مكتف بالدعوة دون تكوين الجماعة، فتلك دعوى باطلة فليس للمسلم أن يتخير في سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيفعل ما يشاء ويترك ما يشاء، إنما ذلك فعل الكفرة مرضى القلوب.

قد يكون هذا الموضوع بهذا الطرح لأول مرة يطرح، لذلك نسعد بالنقاش فيه حتى يتبين الحق ويزول الالتباس وننعم باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حذو النعل بالنعل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


تعليقات

فهرست المقال