القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة التمكين

الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده، والصلاة والسلام على السراج المنير، الهادي بإذن ربه إلى صراط مستقيم؛ وبعد


نواصل سلسلة واقعنا المعاصر، بعد أن بينا في المقال السابق سنة اللّٰه في خلقه، وكيف أنه يورث الأرض لعباده الصالحين، سأقدم في هذا المقال شاهدا من التاريخ على هذه الحقيقة التي ركز عليها القرآن الكريم في عدة سور، ولكن قبل ذلك أجد نفسي مضطرا لمراجعة علم التاريخ الذي لاقى تحريفا كبيرا عن معناه الشرعي حيث اعتبر علما إنسانيا بحتا، يناقش الوقائع من نظرة علمانية، يستوي في ذلك المؤرخون المسلمون وغيرهم فأقول


إن علم التاريخ من العلوم الهامة للإنسان ليأخذ منه العبر، فقد قال ربنا تعقيبا على ما أخبرنا به من  تاريخ الأمن 

﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾

وليس مجرد علم لبحث جذور الذات البشرية لخدمة التراث الإنساني، ومن هذا البعد أجد من الشطط دراسته بمعزل عن خالق الإنسان نفسه، لأنها ستكون دراسة ظالمة في منهجها قاصرة عن استيعاب الحقيقة الكامنة وراء نهضة الدول وانحطاطها، فهي دراسة سطحية تتعامل مع الظواهر المادية المجردة وتغفل عن الكوامن الدينية والأخلاقية التي انبنت عليها، وهذا للأسف ما نجده متقرر عند المؤرخين المسلمين وغيرهم، فيعتبرون الدولة كالإنسان تولد وتنشأ ثم تزدهر وتموت دون إدراك للمخاض الذي تولدت منه ولا العوامل الروحية التي أدت للازدهار والتي أدى انعدامها إلى الانحطاط والدمار، فهي العوامل الحقيقية التي يجب البحث فيها لاستخلاص الدروس والعبر وهذا ما سأهتم به في مقالي هذا لأعطي نموذجا حيا من سنة اللّٰه في خلقه، و النموذجين الذين سأقدمهما هو وفاء اللّٰه لرسوله والمؤمنين بوعدهم بالتمكين لما وفوا بعهد الله، و نشأة دولة المرابطين التي برز فيها أيضا شرط بالوفاء بعهد الله


الحالة التاريخية للعالم والعرب قبل البعثة


من نفل القول ذكر أن العالم كانت تتحكم به قوتين كبيرتين هما الروم والفرس آنذاك، وكان العرب مفعول به خارج الصراع تماما، فهم بين من يعيش منهم في حدود إحدى الإمبراطوريات مستعمر، ومن هو تائه في الصحراء الكبرى حيث الجوع والقحط، باستثناء مكة التي كانت تعيش نوعا من الاستقرار الاقتصادي نظرا لموسم الحج وما يتعلق به من تجارة توفر بضائعها من الرحلة الشتاء والصيف، لكن تبقى الحالة العامة بالحسابات المادية مزرية للغاية، ولكن رغم ذلك اختار اللّٰه العرب لتنطلق منهم رسالته الخاتم إلى العالمين، وهو العدل سبحانه في كل شيء فما هي العوامل التي اختار اللّٰه العرب بسببها ؟


لا نستطيع أن نجزم بجواب على هذا السؤال، لأنه لا وحي لدينا، لكن يمكننا أن ننظر فيما اختص به العرب عن غيرهم في تلك الحقبة التاريخية مما يخولهم لحمل هذه الرسالة إلى العالم بأسره


إذا نظرنا من الناحية الأخلاقية لواقع العرب آنذاك، نجد أن العرب رغم ما كانوا عليه من بشاعة كانوا يتحلون ببعض الخصال الحميدة والهامة لحمل الرسالة ومن أهمها الصبر نظرا لظروفهم القاسية، مع عزة النفس، والإباء، فلم يكونوا يرون أنفسهم دون الأمم التي تعاصرهم والتي تتفوق عليهم ماديا، بل كانوا على العكس من ذلك يرون أنفسهم خير الأمم، و يفتخرون بعروبتهم، ومجدهم، محافظين على لسانهم، وينظرون للأمم الأخرى نظرة إزدراء بدل أن يعجبوا بها، إضافة إلى ذلك كانوا يتنافسون في قيم الفضيلة، و يعدونها شرفا، ومجدا، فكان من خصالهم الكرم والجود والوفاء وإيجار المستجير إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي بقيت في نفوسهم لم تؤثر عليها جاهليتهم، وهذا ما انعكس إيجابا على من آمن منهم فصبر، وكان سببا في إسلام الكثير منهم، وهو ما ذكره جعفر رضي اللّٰه عنه أمام النجاشي، فالعربي رغم الجهل الذي كان يعيشه إلا أنه لا يزال صاحب فطرة سليمة يمكن أن تنبت فيها شجرة الإيمان فتثمر ثمرة طيبة كما حدث بالفعل بعد ذلك، يضاف إلى ذلك أن العربي يومها كان صاحب مبدأ، بغض النظر عن مبدئه خير هو أم شر، إلا أنه كان صاحب مبدأ إذا اقتنع به سيدفع حياته دفاعا عنه، وهذه خصلة هامة كان لا بد من توفرها في الجيل الأول لهذه الأمة، وأي عملية إحياء جديدة يجب أن تنبني على أشخاص من هذا النوع، لأن الضعفاء الراكنين للراحة والدعة لا يستطيعون أن يكونوا أصحاب مبدأ أحرى أن يكونوا أصحاب دين يدافعون عنه بأموالهم وأنفسهم.


قبل أن أبدأ في سرد الوقائع التاريخية، ينبغي التذكير أن العرب رغم ما ذكرت آنفا كانوا على أقصى درجات السوء أيضا، فكانوا يئدون بناتهم مثلا ويأكلون الميتة وينكحون زوجات آبائهم، ولكنهم كانوا والله أعلم أحسن الموجود آنذاك فقد روى مسلم أن رسول اللّٰه قال أن اللّٰه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، فالسوء كان الصفة العامة لأهل الأرض آنذاك وكان العرب أحسن السيئين والله أعلم .


كيف تم التمكين


بعث رسول اللّٰه ﷺ على فترة من الرسل في تلك البيئة الجاهلية داعيا إلى اللّٰه وحده واستخدم القرآن المكي لهذا الغرض العديد من أساليب الترغيب، كان من أهمها الدعوة إلى مكارم الأخلاق، التي كانت حافزا عند أغلب ما آمن بالرسالة الجديدة التي كانت ثورة على الجاهلية، تجعل المرء ينسلخ من ذاته ويسلم نفسه لخالقه سبحانه وهذا هو الإسلام نفسه، فآمنت قلة قليلة عانت الاضطهاد والتعذيب كما هو معروف في كتب التاريخ والسير، وهذه سنة اللّٰه أنه قبل التمكين، لا بد من الابتلاء والتمحيص وقد نصت على ذلك كثيرة من الآيات.


في تلك الظروف الصعبة خرج رسول اللّٰه ﷺ مهاجرا مطاردا من قبل صناديد الكفر، ليحط الرحال في المدينة بعد رحلة طويلة وشاقة معروفة، ليبدأ مرحلة جديدة لا تقل صعوبة عن المرحلة التي سبقتها، العدو فيها هذه المرة يدعي العلم، ويلبس على الناس، وهو أشد ضراوة من عداوة أهل مكة الجهلة التي كانت مقصورة على التعذيب الجسدي في أغلبها، الفترة المدنية رغم صعوبتها اقتصاديا وضراوة الحروب العسكرية والفكرية التي ميزتها إلا أنها أفرزت مجتمعا مسلما تخطى كل العقبات الصعبة ووفى بعهد الله حقا فمكنهم الله من أهل الأرض جميعا، فليس بين هجرة رسول اللّٰه ﷺ، وفرار قيصر الروم أمام النبي ﷺ في غزوة تبوك، سوى تسع سنوات وهذه المدة لا تعادل ثانية في حساب تاريخ الأمم، وهذا ما نحن بحاجة ماسة لفهمه، لنعلم أن واقعنا المرير يمكن تغييره في ظرف قصير جدا متى وجدت جماعة آمنت بما آمن به رسول اللّٰه ﷺ وصحبه الكرام، والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ما الذي يميزهم عنا فنحن ندعي الإيمان بمثل ما آمنوا به؟


للإجابة على هذا السؤال الوجيه أقول أن الذي ميز الصحابة رضوان اللّٰه عليهم عنا هو أمر واحد على أساسه ينبني الإيمان كله تحقق فيهم وغاب عنا للأسف، فكان إيمانهم صحيحا مكن اللّٰه به، وكان إيماننا كاذبا لم نجني منه سوى الذل والهوان فما هو هذا الأمر ؟


إنه ببساطة شديدة الإيمان بالقرآن والسنة … نعم الإيمان بالقرآن والسنة، وبالتأكيد ستصرخ وتقول ونحن أيضا نؤمن بالقرآن والسنة، وهذه مجرد دعوى يكذبها لسان حالنا كل يوم كما سأبين؛ إذا كنا فعلا مؤمنين بالقرآن والسنة لماذا لا نكتفي بهما ؟ 


ولماذا نكذبهما حين لا نقر بأنهما بينين يسيرين فعلا كما أخبر ربنا ؟ 


هنا الفرق بيننا وبين الصحابة رضوان اللّٰه عليهم، هم كانوا يجدون القرآن بينا يسيرا كما أخبر اللّٰه، بمجرد ما تنزل الآية يقرأها أحدهم فيكتفي بها لأنه آمن فعلا، أما نحن فنقرأ الآية ورغم كونها بينة ننتظر التفسير لأننا لم نؤمن أصلا أن القرآن بين يسير كما أخبر اللّٰه مرارا في كتابه، ولذلك كان إيماننا الذي ندعي إيمانا كاذبا مسخا مشوها لا يغني من الحق شيئا وإن شئت راجع مقال آمن ولا تكن كالكلب أو الحمار.


الصحابة بمجرد ما يقول رسول اللّٰه ﷺ الكلمة تنفذ فورا، فهي ليست مشكلة بالنسبة لهم، هل سمعت عن صحابي يسأل رسول اللّٰه ﷺ عن شرح حديث ؟ 


مطلقا وهذا السؤال أحمق سؤال، لأن حديث رسول اللّٰه ﷺ ليس بمشكل فهو مبين لذلك يتلقونه بالسمع والطاعة، أما نحن فالسؤال الأحمق السابق، يصبح السؤال الوجيه فحديث رسول اللّٰه ﷺ مشكل بالنسبة لنا، ومن الحمق العمل به دون أن نعرف شرحه، فنهرع لشروح الحديث - التي كتبها رجال دون إذن من الله -  فنجد الحديث ضاع بين قال فلان، وخلافه علان، مما يثبت أننا لم نؤمن بأن رسول اللّٰه أدى البلاغ المبين كما أمره سبحانه وتعالى، ويؤكد أننا لم نؤمن يوما بالقرآن والسنة، ولو آمنا لتحقق وعد اللّٰه، لأنه سبحانه لا يخلف الميعاد، وتلك سنته ولا تبديل لسنته سبحانه .


مثال آخر يثبت ما سبق، وهو كيف نشأت دولة المرابطين، حيث نجد في التاريخ كيف أن عبد الله بن ياسين ربى المرابطين على الكتاب والسنة فقط، ولم يشغلهم بالخبث الذي كانت تعيش فيه الأمة آنذاك، فتحقق وعد الله ثانية وانطلق المرابطون في فترة وجيزة جدا يفتحون البلاد، فضموا المغرب والأندلس التي كانت قبلهم على حافة السقوط، كما فتحوا البلاد الشاسعة في إفريقيا، كل ذلك لم يكلف عقدين من الزمن، ولكن للأسف لأن الجيل الثاني لم يتلق تربية النواة الأولى بمجرد ضمهم للمغرب بدأ السقوط ، لأن المغرب يومها كانت وكرا لما يسمى المذهب المالكي الذي هو إحدى تجليات الكفر بدين الإسلام الذي جاء به محمد ﷺ، فانغمس الجيل الثاني في ذاك التراث المقيت، فانهارت الدولة بسرعة البرق، بعدما صعدت في ظرف يسير، لأن سنة الله لا تتبدل ومن سنته أنه لا ينال عهده الظالمين، والتمكين إنما هو خاص بالمؤمنين.


تلك أمثلة حية من قصص التمكين أكتبها للذين آمنوا بربهم، وقرروا الوفاء بعهده، وفي المقال القادم من هذه السلسلة بإذن اللّٰه سأناقش بداية نكث العهد التي أوصلتنا لما نحن فيه اليوم.

author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

فهرست المقال