القائمة الرئيسية

الصفحات


الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، والصلاة والسلام على الداعية إلى ربه بإذنه، والهادي إلى صراط مستقيم، وبعد

رأينا في المقال السابق من هذه السلسلة، كيف أقام إبراهيم بإيصال دعوته لكل قومه لما اجتمعوا لحرقه، ورأينا كيف نجى الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم من النار التي أرادوا حرقه بها، فماذا فعل إبراهيم بعد ذلك؟ وهل بقي شيء على إبراهيم فعله، وهو الذي ضحى بحياته وتحدى قومه مرارا وتكرارا؟ هذا ما سوف نجيب عليه في هذه السطور إن شاء الله. 

لكن قبل الجواب على هذا السؤال، أريدك أيها القارئ أن تتخيل المشهد الذي مر عليه الجمهور أمام إبراهيم، لقد أقام عليهم الحجة حين كسر آلهتهم، فلو كان فيها خير لدافعت عن نفسها، ولقد حرضهم إبراهيم على التخلي عنها بكلماته القوية المزلزلة: 

﴿أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون﴾

فهل استجابوا ؟! 

لا بل ازدادوا عنادا وطغيانا، وقرروا نصرة آلهتهم بحرق إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فأذلهم الله وشاهدوا كيف أن إله إبراهيم نصره وأعزه، وأذلهم وآلهتهم الذين يعبدون من دونه، فهل آمنوا وتداركوا أنفسهم ؟! 

لا يذكر الله أنه آمن له أحد سوى لوط عليه السلام: 

﴿فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم﴾

أي قلوب قلوب هؤلاء؟؟! ... وما الذي يمنعهم من الإيمان؟!

إن في عدم إيمان قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم بعد كل ما رأوا من الآيات لعبر كثيرة منها

أن الهداية بيد الله وحده، وليست متعلقة بالآيات والحجج، فمن لم يرد الله هدايته ماله من هاد، وهذا المعنى أكد عليه ربنا عز وجل في مواضع كثيرة جداً منها قوله سبحانه:

﴿ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون﴾

فعلى الدعاة إلى الله أن يدركوا هذه الحقيقة، ويعلموا أنما عليهم الاتباع، وليسوا مسؤولين عن هداية الناس، فهم لا يملكون هداية الناس ولا يملكون هداية أنفسهم أصلا، كما أنه لا يضرهم إذا لم يتبعهم أحد، أو يؤمن بدعوتهم، فهذا إبراهيم برغم قوة حجته، وبرغم آية عدم حرق النار له، لم يؤمن له غير لوط، لذلك ليست قلة الأتباع بدليل على فساد الدعوة، وليس كثرة الأتباع دليل على صحة الدعوة، إنما الميزان الحق لمعرفة صحة الدعوة من فسادها، هو اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في منهجه الدعوي والتقيد بالوحي.

نعود لموضوعنا الأساس ونحاول الإجابة على الأسئلة التي طرحناها في بداية المقال، فأقول 

قد يقول قائل إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فعل أقصى ما يمكن فعله، وحق له أن ينعم بالراحة، فقد أقام الحجة على قومه، وأظهر الله معيته معه حين نجاه من النار، فهل توقف إبراهيم عن الدعوة ؟! 

إن إبراهيم بالرغم من كل ما فعل، لا يمكنه أن يتوقف عن الدعوة إلى الله، وسيظل يدعو حتى آخر رمق، فإذا كان بلغ أقصى حد مع قومه ولم يستجيبوا فإنه سيبحث عن آفاق جديدة لدعوته، ولذلك قرر الاعتزال والهجرة عن قومه، حتى ولو لم يعرف الوجهة التي سيذهب إليها كما أشار إلى ذلك في قوله:

﴿وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين﴾

فالسين في سيهدين تفيد الهداية في المستقبل، أي أن إبراهيم أخذ قرار الهجرة الذي أكده ب "إن" وباسم الفاعل "ذاهب" الدال على المضارعة للتوكيد، فهو لم يذهب بعد، ولم يحدد وجهته، ثم أخذ بالبحث عن وجهة محتملة 

إن قرار الهجرة والاعتزال هو القرار الذي دوما ما تتنزل الرحمات بعده، فقد وعد الله بذلك في قوله: 

﴿ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما﴾

وهذا ما حدث فعلا مع إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فقد أخبرنا ربنا في قوله: 

﴿فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا﴾

وكانت هذه آية ورحمة له صلى الله عليه وسلم. 

هاجر إبراهيم صلى الله عليه وسلم وظل يدعو إلى الله عز وجل يتقرب إلى الله عز وجل، سالكا طريق الجنة، ذلك الطريق الذي لا راحة فيه إلا بعد الموت، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم أبو المسلمين ليس استثناء من ذلك، فالبرغم من كل ما لاقى من قبل، ظل يبتلى ومن ذلك أصعب ابتلاء يمكن أن يتخيله المرء، إنه يؤمر بذبح فلذة كبده البار به، الذي كان يدعو الله أن يرزقه إياه، كما أخبرنا ربنا في قوله: 

﴿رب هب لي من الصالحين﴾﴿فبشرناه بغلام حليم﴾﴿فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين﴾﴿فلما أسلما وتله للجبين﴾

انظر إلى شدة البلاء، وتصور الشيخ وضع ابنه، وقد أخذ السكين لينفذ ما أمر به، هذا هو الإسلام فعلا متجسدا، لا مجرد كلام نظري، إسلام مطلق لله، يذبح ابنه طاعة لله والنفس راضية، لقد نجح إبراهيم في البلاء العظيم، وعلى من يسير على دربه أن يتوقع بلاء كهذا، فمن سار على الدرب وصل، وهذا البلاء محطة من محطات درب إبراهيم. 

تتدارك رحمة الله إبراهيم وابنه البار، فالله رحيم بعباده المؤمنين، لا يسعى لتعذيبهم، كما أخبر عن نفسه في قوله: 

 ﴿ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما﴾

فليس الهدف من البلاء تعذيب المؤمن كما يتصور البعض، وإنما ليقرب به المؤمن وليعلم من الصادق من الدعي الكاذب، ولقد تدارك الله إبراهيم برحمته لما نجح في الاختبار وشرفه، كما أخبرنا في قوله: 

﴿وناديناه أن يا إبراهيم﴾﴿قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين﴾﴿إن هذا لهو البلاء المبين﴾﴿وفديناه بذبح عظيم﴾﴿وتركنا عليه في الآخرين﴾﴿سلام على إبراهيم﴾﴿كذلك نجزي المحسنين﴾﴿إنه من عبادنا المؤمنين﴾

إن طريق إبراهيم هو طريق المحسنين، من سار عليه لقي نفس الجزاء كما أخبر ربنا

﴿كذلك نجزي المحسنين﴾

وهذا الطريق كما رأينا في هذه السلسلة يتسم بصفة أساسية وهي التسليم المطلق لله وحده في كل الحياة، وما يعنيه ذلك من كفر بالطاغوت وعابديه، ودعوتهم إلى الإيمان بالله، وما يعنيه أيضاً من ابتلاءات متصلة لا نهاية لها إلا الموت، ولا حدود لعظمتها، هذا هو طريق إبراهيم، وطريق المحسنين، فاختر لنفسك أيها القارئ، واعلم أنه لا يمكنك بحال من الأحوال أن تخدع الله العليم بما في الصدور، كما يفعل كثير من الناس اليوم، يقول الواحد منهم أنا اختار طريق إبراهيم بلسانه، وهو يعيش بين الكفار، تحت سلطان الطاغوت، لا يدعوهم ولا يواجههم، بل خانع خاضع لهم، يأكل من فتات الدنيا الذي يلقونه له، هيهات ثم هيهات أن يكون من هذه حاله على درب إبراهيم، وما دعواه اتباع ملة إبراهيم إلا دعوى كاذبة يخادع بها نفسه المريضة والعياذ بالله، فاصدق مع الله وخذ قرارك الآن واسأل الله الثبات.

author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

فهرست المقال