القائمة الرئيسية

الصفحات

﴿إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين﴾

﴿إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين﴾

الحمد لله فاطر السماوات والأرض، ولا نعبد إلا إياه، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد

رأينا سابقا في هذه السلسلة كيف تحرر إبراهيم من سلطة المجتمع، وأعلن الكفر بآلهة قومه، لما نظر في ملكوت السماوات والأرض، إن دعوة إبراهيم التي سفهت آلهة قومه، كانت دعوة نابعة عن صدق وتجرد، فهو يعلم بلا شك أن هذا الكون له إله واحد، وإلا لما استقام، ولكنه ليس من بين الأصنام التي يعبد قومه، لذلك انطلق في بحثه عن الله كما أخبر الله عنه : 

﴿فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين﴾

إن الإله الحق، المستحق للعبادة، لا يمكن أن يغيب عن مخلوقاته، المفتقرة إليه في كل لحظة، لذلك هذا الكوكب الآفل لا يستحق أن يكون معبودا، ومن ثم صرف عنه النظر، وواصل البحث كما أخبرنا ربنا عز وجل:

﴿فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين﴾

القمر أكبر في عين المراقب من الكوكب البعيد، ولكنه أيضا يأفل، لذلك لا يستحق العبادة، ولكن هذه المرة وصل إلى حقيقة غائبة عن كثير من الناس، أن الأمر كله بيد الله، بحيث لا متصرف حقيقي إلا هو، ولا يمكن أن يحدث شيء في الكون إلا من بعد إذنه سبحانه. 

هذا الأمر إذا فهمه الإنسان، أدرك سخافة المتعلق بالأسباب دون رب الأسباب، كما أنه يستطيع أن يتحرر من عبادة الطاغوت، حيث أنه أيقن أن الطاغوت مفعول به، لا فاعل، ومن ثم لا معنى لعبادته.

لقد أدرك إبراهيم صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة المطلقة، وخصوصا أن الهداية بيد الله وحده وأنه يجب اللجوء إلى الله وحده حتى تتحقق الهداية، فلا عقله الذي اكتشف به ضلال قومه، قادر على هدايته، ولا علمه ولا ملاحظاته، إنه عاجز تماما عن هداية نفسه، لذلك لجأ إلى الله بصدق في طلب الهداية، وهو بهذا حقق شرطا أساسيا من شروط الهداية وهو الرجوع إلى الله بصدق حيث قال ربنا عز وجل :

﴿ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب﴾

فإذا أردت الهداية، اصدق في إنابتك إلى الله، والله سيهديك ولو بعد حين، فالله لا يخلف الميعاد سبحانه. 

بالرغم من شعور إبراهيم صلى الله عليه وسلم بعجزه عن هداية نفسه، إلا أنه واصل البحث، راجيا من الله الهداية، فمواصلة البحث، وبذل الجهد هي الدليل على الصدق، فالصدق ليس مجرد ادعاء باللسان، وإنما يتجلى في عمل الإنسان وشعوره، ولذلك الذي يدعي الصدق في رجاء رحمة الله عز وجل، ولكنه لا يسعى في سبل مرضات الله كذبه الله بمفهوم المخالفة في قوله : 

﴿إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم﴾

أين بمفهوم المخالفة أن من سوى الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل، كاذب في دعواه رجاء رحمة الله، ولو كان يكررها دومها، ويبرر بها تفلته من التكاليف، كما هو مشاهد من كثير من الناس اليوم، يرتكبون المعاصي بحجة أن الله غفور رحيم وأنهم يرجون رحمة الله. 

الهداية كذلك تحتاج عملا لإثبات صدق طالبها، ولايكفي سؤال الهداية باللسان دون السعي في تحصيلها، لذلك قال ربنا عز وجل : 

﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾

فلا بد من المجاهدة في سبيل الله لكي تتحق الهداية، وهذا ما قام به إبراهيم بالفعل، فظل يبحث عن الله كما بين الله في قوله :

﴿فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون﴾

إن نور الشمس الساطع هو أكبر نور مشاهد يغطي الآفاق، فلما أفل علم أن ربه أعظم من أن يكون أحد المشاهدات، فكل ما يشاهده متغير بين البزوع تارة والأفول تارة أخرى مهما كان، وربه الذي يتوجه إليه هو رب الكون كل الذي فطره من عدم، فهو وحده من يستحق أن يعبده، هذه الحقيقة التي أدركها أخيرا، أعلن عنها في استعلاء على المشركين وآلهتهم السخيفة التي لا تملك لا موتا ولا حياة ولا نشورا، فقبل إعلان التوجه إلى الله أعلن في استعلاء البراءة مما يشرك قومه مع الله عز وجل، وهكذا يجب أن يكون المؤمن، إيمانه بالله يعليه على السالفين المشركين، إيمانه مصدر قوة لا تقهر، فهو يعبد من بيده كل شيء، بينما المشركون يعبدون من لا يملك لا نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فأي الطرفين الأعلى وأيهما الأسفل ؟! 

بكل تأكيد أبونا إبراهيم صلى الله عليه وسلم الذي يواصل إعلان الملة التي تقوم على البراءة من الشرك وإخلاص الدين لله وحده فيقول : 

﴿إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين﴾

تأمل كيف ركز إبراهيم على بيان الاستعلاء على الكفار حين قال:

حنيفا

أي مائلا عن أهل الشرك، ثم أكدها مرة أخرى في قوله: 

وما أنا من المشركين 

لتكون المحصلة أن إبراهيم في إعلانه لملة التوحيد أعلن التوجه لله مرة واحدة وأعلن ثلاث مرات البراءة من الشرك والمشركين في استعلاء عليهم، ليبين سمة أساسية في المؤمن وهي كونه قوي بالله عزيز كما سبق وبينا في شروط الإسلام.

أيها القارئ أنت أيضا إذا قررت اتباع ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون قويا تشعر بأنك أعلا من هؤلاء المشركين الذين يعبدون من لم يخلقهم ولا يملك لهم شيئا، ويجب أن يشعر المشركون بشعورك هذا وتعلنه لهم وتتحداهم به كما فعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وكما فعل الأنبياء كما بينا سابقا، فإن عجزت عن ذلك فهاجر في أرض الله الواسعة، ولا تقبل أن تعيش مستعضفا، فالاستضعاف والإيمان نقيضان لا يجتمعان، إلا لمن أعذرهم الله كما بينا في مقال المؤمن عزيز والاستضعاف جريمة.

author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  1. جزاك الله خيرا ونفع بك، هذا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ..

    ردحذف

إرسال تعليق

فهرست المقال