القائمة الرئيسية

الصفحات

﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون﴾

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله على من بعث رحمة للعالمين وبعد

تسعى جميع أنظمة الحكم، لتحقيق الدولة المثالية، التي من خلالها تتحق سعادة الفرد داخل المجتمع، وذلك بتحقيق الأمن والرفاه الاقتصادي، ماديا، والاستقرار اجتماعيا من خلال منظومة أخلاق قوية ومتكاملة، واشباع الجانب الروحي بمعتقدات متسقة مع العقل، وفتح آفاق للفكر وتحريره في ميدانه ليقدم أفضل ما عنده، هذه الدولة المثالية التي تحقق للفرد ما ذكرنا سابقا بقت حبيسة خيال الفلاسفة، لم تر النور في تاريخ البشرية إلا خلال حقبة الحكم الراشدي من تاريخ الدولة الإسلامية، ففي هذه الحقبة تحقق الأمن والسلام الاجتماعي وما يعني من قوة المنظومة الأخلاقية، لدرجة أنه خلال حكم أبي بكر الصديق لم تسجل ولا جريمة واحدة بحسب ما هو متوفر من المصادر، كذلك بلغ الرفاه الاقتصادي ذروته، حيث وصلت نسبة الفقر في الشعب أيام خلافة عمر إلى صفر في المائة، مما يجعلنا أمام حالة فريدة في التاريخ لم يسبق أن عرفتها البشرية لا في ماضيها ولا في مستقبلها حتى الآن فكيف تم ذلك ؟! 

قبل الإجابة على هذا السؤال، وحتى تعلم مدى السموق والعلو الذي وصلته الدولة الإسلامية في الحقبة الراشدية، يجب أن ننظر إلى أحدث ما أوصلتنا إليه النظم البشرية في وقتنا المعاصر فأقول 

إن الأنظمة العلمانية المعاصرة سواء كانت الرأسمالية أو الاشتراكية هي أنظمة تهمل الجانب الأخلاقي تماما، فالإنسان عندها لا يعدو كونه آلة للتصنيع، إما لنفسه كما هي الحال في النظام الرأسمالي، أو للقطيع في حالة النظام الاشتراكي، هذا الإهمال للجانب الأخلاقي، كان له الأثر السيئ على الفرد والمجتمع حيث أنه ألغى أهمية القيم المطلقة، في مقابل الجشع المتزايد، فصار الإنسان هو أرخص مخلوق، قيمته يحددها ما يملك من مادة، فنجم عن ذلك تفلت أوصل الشعوب الغربية إلى مستويات قياسية في الجريمة، ولولا الرقابة البوليسية الصارمة لشهدنا انهيارا كاملا للمجتمعات الغربية كما حصل في بعض بلدان العالم الثالث التي تبنت الفكر الغربي المعاصر. 

إن العالم يعيش الآن أسوأ فترة مرت عليه في تاريخ البشرية من آدم إلى يومنا هذا، فلأول مرة في تاريخ البشرية لا يسمح بالرذيلة وحسب بل تشرع وتحمى بسلطة الدولة، في تحد سافر لأي فطرة سليمة، فحين تمارس الفاحشة لا يكتفي الممارسون بالممارسة، وإنما يتحدون من ينكرها ولو بقلبه ويشرعونها بسلطة الدولة، فالعالم اليوم وصل لنقيض الدولة المثالية، ويمر بأسوء فترة مرت عليه على الإطلاق، مما يجعل الحاجة إلى معرفة كيف وصلت الدولة الإسلامية في الحقبة الراشدية إلى المثالية أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، لذلك أقول 

لقد بينت في مقالي السابق من سلسلة من القمة إلى الهاوية، كيف أن التمكين في الأرض ليس مشروطا بأي سبب من الأسباب المادية، إنما هو مشروط بالإيمان فقط، متى تحقق الإيمان تحقق التمكين لقول سبحانه : 

﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾

وكما تحقق لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه بالرغم من الظروف الاقتصادية والعسكرية الصعبة جدا، كما رأينا سابقا، تحقق كذلك للصحابة رضوان الله عليهم بعده، الذين عاشوا بعد رسول صلى الله عليه وسلم فترة لا تقل صعوبة عما عاشوه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، وإليك بيان ذلك، وكيف كان الإيمان فقط هو سلاحهم الوحيد الذي واجهوا به الظروف.

بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مصيبة للأمة لا تعدلها مصيبة، كان على الصحابة رضوان الله عليهم أن يتعاملوا مع واقع شديد الصعوبة والحساسية، فالعرب قد ارتدت عن الإسلام قاطبة باستثناء مكة والمدينة، وزيادة على ذلك ظهر مدعوان للنبوة في غاية الخطورة، فهم بالنسبة لأقوامهم وسيلة الاستدراك شرف النبوة الذي فازت به قريش عليهم، وهو أمر مستعدون للفناء عن بكرة أبيهم في سبيل تحقيقه كما ظهر من ثباتهم مع مسيلمة الكذاب. 

إلى جانب ما سبق كانت الدولة الإسلامية قد بدأت الحرب مع أعظم قوتين آنذاك الروم والفرس، مما يعني أن الصحابة في المدينة ومكة كانوا يواجهون العالم كله وفي آن واحد، فكيف استطاعوا أن ينتصروا عليه ويردون الجزيرة العربية للإسلام ويفتحون إمبراطورية فارس ويهزمون الروم وينتزعون منهم الشام ومصر في ظرف وجيز للغاية ؟! إنه لسؤال محير لا يستطيع أبدا أن يجيب عليه أقوى قيادات العالم أجمع ولا اجتمعوا، لأنه أكثر من معجزة حقيقية، ولكن بالرغم من ذلك فعلها الصحابة رضوان الله عليهم، فكيف فعلوها ؟! 

لقد فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماهم مكلفون به من إيمان، يتجلى في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهما كلف الأمر، وحينها يفي الله لهم بعهدهم وهو النصر والتمكين، لقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الأمر وخصوصا ذلك الجبل الشامخ الراسي أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فلم يرعه ما يرى من ارتداد العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ما يرى من شراسة العدو وقربه وفتكه، لم يخفه كل ذلك، واتخذ القرار الحاسم بإنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه الذي كان قد شكله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقد ألويته.

إن إنفاذ جيش أسامة كان أكبر امتحان تعرض له الصحابة، فكل الحسابات المنطقية، تقول بعدم إنفاذه، لأن أبسط نتائج إنفاذه أن تبقى المدينة عاصمة الدولة الإسلامية دون أدنى حماية، والعدو متربص قريب يتحين الفرص، كما أن جيش أسامة سيقاتل بعيدا جدا عن المدينة محاطا بالأعداء من كل جانب، ليس له ما يحمي به ظهره، كان هذا أيضا مخاطرة بالصحابة رضوان الله عليهم الذين يكونون الجيش، فرميهم في تلك البلاد البعيدة وسط الأعداء، مهلكة حقيقية ومخاطرة إحتمال هلاكهم فيها، هو الاحتمال الأكيد، هذا ما يقوله العقل والمنطق، في المقابل أن في إنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه، إنفاذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يفعل الصديق ؟!

إن الصديق الذي تكون في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم يعلم جيدا أن الأمر ليس بالحسابات المادية، وإنما يعتمد على معادلة أوفوا بعهد الله، يفي لكم الله بعهدكم، مهما كانت الظروف، لذلك لم يتردد في إنفاذ الجيش ونجح في الاختبار الأصعب، فكان النصر حليفه، وقذف الله الرعب في قلوب الأعراب، فما إن سمعوا بخروج جيش أسامة حتى سارع بعضهم إلى الرجوع إلى الإسلام فورا فالصحابة أرسلوا لأعدائهم بإنفاذ جيش أسامة رسالة واضحة، مفادها أن المسلمين لا يزالون أقوياء رغم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يعنيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فقوتهم مصدرها الإيمان بالله عز وجل، هذه الرسالة لم يتأخر الصحابة رضوان الله عليهم في تحقيقها عمليا، حيث بدأت حروب الردة، تطحن المرتدين طحنا تنقلع معه قلوب الشجعان، وما هي إلا فترة وجيزة جدا وقد رجعت الجزيرة كلها تدين بالإسلام، وتحقق النصر والتمكين لعباد الله المؤمنين. 

إن ما حدث في بداية العهد الراشدي هو بحق آية من آيات الله، ويوم من أيام الله، يبين الله لنا فيه بكل وضوح أن القاعدة التي علينا نعمل وفقها حصرا دون غيرها، هي التي في قوله لبني إسرائيل ولنا من بعدهم : 

﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون﴾

فمتى تكونت جماعة مسلمة في أي زمن كان على أساس هذه القاعدة، فلابد أن يفي الله لها بعهدها فينصرها ويمكن لها، فهذا وعد الله ولا يخلف الميعاد، فهل من واف بعهد الله ؟! 

author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

فهرست المقال