القائمة الرئيسية

الصفحات


تمت مراجعة هذا المقال والإضافة عليه في المدونة الجديدة، وعنونته به

ما هو التشريع ومن يحق له وماهي مصادره

النسخة القديمة من المقال

قد يبدو هذا السؤال غريبا، فالمؤمن الذي أسلم نفسه كلها لله كما بينا سابقا في ماهية الإسلام، يعلم أنه لا مصدر للتلقي والتشريع بالنسبة له إلا الوحي كما بينا سابقا أيضا، ولكن في الواقع الأمر ليس كذلك بالنسبة لكثير من الناس، يتجلى ذلك عند السؤال عن مصادر التشريع، فالكثير من الناس يرون أن مصادر التشريع خمسة مرتبة بحسب الأهمية على النحو التالي 

القرآن ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس ثم الاجتهاد.

أي أن الله مشرع، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرع أيضا مستقل عن الله، ثم الأمة مشرعة باجماعها، ثم المجتهدين مشرعين أيضاً بالقياس وغيره من طرق الاجتهاد، أي أنه بالمحصلة عندنا عدد من المشرعين لا حصر له، فهل هكذا أذن الله لنا؟ 

إذا تأملت القرآن تجد أن التشريع حق إلهي بحت، فالله عز وجل هو وحده من له حق التشريع، فنحن عبيده والرزق رزقه، ومن ثم فله كامل الحق أن يحل لنا أو يحرم علينا ما يشاء فنحن ملكه سبحانه وقد بين ربنا عز وجل ذلك في قوله: 

﴿قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون﴾

فالرزق رزقه، ولذلك فمن الاعتداء أن نحرم ونحلل ما لا نملك لمن لا نملك. 

لقد بين ربنا عز وجل أن شرك التشريع هو ما وقع فيه المشركون من قبل، فقال جل من قائل : 

﴿وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين﴾

فبين ربنا عز وجل أن عبادتهم لغير الله إنما تكمن في تحريمهم من دونه، فالواو في قوله "ولا حرمنا من دونه من شيء" واو عطف تدل على البيان، أي أن شركهم في عبادتهم لغير الله إنما يكمن في تحريمهم من دون الله، فصاروا بذلك عابدين لمن حرم عليهم حيث أنهم أطاعوه في تحريمه من دون الله - يمكنك مراجعة ماهية العبادة في مقال سابق بالضغط هنا - 

هذا المعنى، أي شرك التشريع نص عليه ربنا عز وجل كذلك في قوله: 

﴿أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم﴾

فالله سبحانه إذا هو وحده من له حق التشريع، من اتخذ مشرعا معه صار مشركا والعياذ بالله.

قد يقول قائل ما دام شرك التشريع شرك صريح دلت عليه هذه الآيات الصريحة القاطعة، فكيف وقعت فيه الأمة فجعلت من رسول الله ومن المجتهدين شركاء لله وهو بهذا الوضوح ؟

فأقول إن هذا السؤال في الحقيقة وجيه جدا، والجواب عليه يكمن في وقوع الناس قديما وحديثا في لبس جعلهم لا يميزون بين التشريع والقضاء والحكم، ويعتبرون هذه المفاهيم الثلاثة مفهوما واحدا، وهو التشريع، فإذا تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كقاض أو كقائد للجيش، اعتبروا ذلك تشريعا منه صلى الله عليه وسلم، وإذا قال صلى الله عليه وسلم : 

ﺇﺫا ﺣﻜﻢ اﻟﺤﺎﻛﻢ ﻓﺎﺟﺘﻬﺪ ﺛﻢ ﺃﺻﺎﺏ، ﻓﻠﻪ ﺃﺟﺮاﻥ، ﻭﺇﺫا ﺣﻜﻢ ﻓﺎﺟﺘﻬﺪ ﺛﻢ ﺃﺧﻄﺄ، ﻓﻠﻪ ﺃﺟﺮ

 الحديث وتخريجه هنا.

اعتبروا ذلك إذنا من الله للناس في التشريع معه، وهذا غير صحيح كما سبق وبينا في مقال سابق عن الفرق بين القضاء والتشريع، أحيل القارئ إليه ليزول عنه اللبس.

أمر آخر كان سببا في هذا النوع من الشرك هو الإعراض عن الوحي والكفر بقول الحق سبحانه :

﴿ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين﴾

حيث يعتبر الناس أن الوحي قرآنا وسنة عاجز عن استيعاب كل الأحداث بيانا وحكما مكذبين بذلك للآية السابقة، هذا التكذيب دفعهم للبحث عما يسدون به هذا النقص المزعوم فاخترعوا لذلك الاجتهاد بكل أنواعه، فمثلا القياس الذي هو إلحاق فرع بأصل في الحكم لاشتراكهما في العلة، يشترط في الفرع أن لا يكون منصوص الحكم، وهذا طبعا غير موجود فعليا فالله بين كل شيء كما أخبر ولكن الناس معرضون عن بيانه.

إن شرك التشريع كان أول ما منيت به هذه الأمة والأمم السابقة، ويبدأ أولا بتشريع الكذب على الله كخطوة أولى، فالمشرع الجديد ينسب ضمنيا تشريعه لله عز وجل، فيقول هذا حلال وهذا حرام، ويسكت، مما يوهم السائل أن الله هو الذي جعل ذلك حلالا وجعل الآخر حراما، وقد حذر الله من ذلك في قوله : 

﴿ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون﴾

وهذا مشاهد اليوم بكثرة، فأغلب من يتصدر للفتوى، إنما يعطي أحكاما جاهزة تتصور العامة أنها حكم الله، وما هي بحكم الله، والمفتي نفسه يعلم أنها ليست حكم الله، ولكنه لا يجرؤ على ذكر ذلك للعامة، لذلك تراه عنده التدقيق معه أفتواه حكم الله أم لا؟ يغضب ويراوغ، ويتهم السائل بالتنطع، وانه ما دام جاهلا فحكمه التقليد، فهو ليس من أهل النظر ولا يستطيع تمييز الأدلة.

إننا في شرك التشريع نتبع سنن من قبلنا كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بين ربنا عز وجل أن الأمم السابقة، اقتصر تحريفهم على الكذب على الله عز وجل في قوله: 

﴿فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون﴾

وهذا ملاحظ اليوم بوضوح، فإذا اطلعت على كتاب النصارى الذي يقدسونه، وجدتهم ينسبون لله كلام أحبارهم باعتبار أن الله أوحى لهم.

وهذا بالضبط ما نمارسه وإن كان  بطريقة خجولة - نفتي بالفتوى دون أن تكون حكم الله ولا نبين ذلك - ولم نكتفي بذلك، بل زدنا عليه حيث أعطينا لأنفسنا حق التشريع مع الله تحت ما يسمى الاجتهاد الذي بينا حقيقته في درس سابق، ثم جعلنا من أنفسنا مشرعين فوق الله عز وجل، وذلك عبر ما نسميه الاستحسان، فأعطينا لأنفسنا الحق في وضع ضوابط لوقف العمل بالوحي قرآنا وسنة، كما هو موضح في كتاب الضوابط الشرعية لوقف العمل بنصوص القرآن والسنة الذي اعتبر كتابا قيما عند المجامع العالمية المعتبرة في أمتنا للأسف.

إننا بهذا للأسف الشديد لا نكون مارسنا شرك التشريع وحسب، بل جعلنا من أنفسنا مشرعين فوق الله عز وجل والعياذ بالله، لذلك لا تستنكر أن يضرب الله علينا الذلة والمسكنة جزاء نكالا لما اقترفنا، فليس كفارنا بخير من أولئك، وليست لنا براءة في الزبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إنني وأنا أسطر هذه الحروف أشهد الله عز وجل ثم الملائكة والناس أجمعين على برائتي من شرك التشريع وبرائتي من أهله ومن يقره إلى يوم الدين لا أعبد ما يعبدون ولا هم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما يعبدون ولا هم عابدون ما أعبد، لي ديني ولهم دينهم، والله على ما أقول شهيد.


author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

فهرست المقال