القائمة الرئيسية

الصفحات

وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين

الحمد لله الذي أنزل الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وصلى الله على من بعث رحمة للعالمين وبعد

نبدأ مستعينين بالله عز وجل سلسلة ملة إبراهيم بأول ميزة ميزت إبراهيم صلى الله عليه وسلم وكانت سببا في جعله من الموقنين، إنها الميزة التي تحدث عنها ربنا عز وجل في قوله :

﴿وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين﴾﴿وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين﴾

إنها ميزة التفكير في الواقع الذي يعيشه بكل أبعاده، سواء التعبدية منها أو الفضائية،  هي ميزة أساسية في بناء ملة سليمة وهي التي تميز المؤمن من الكافر، يتجلى ذلك في قول الحق سبحانه :

﴿الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار﴾ 

فليس من المعقول أن تكون السماوات والأرض وهي بهذه العظمة خلقت بدون هدف، هذا يرفضه المنطق السليم، حيث أن المنطق يقول أن هذا الكون باتساعه وعظمته لابد خلق لغاية عظيمة تتناسب معه، هذه الغاية من لم يقم بها حتما سيعذب عذابا شديدا، ولذلك ربط المؤمنون في الآية بين خلق السماوات والأرض والإقرار بكونه خلق من أجل غاية عظيمة، وبين دعاء الوقاية من عذاب الله،

في المقابل نجد أن الكافر كالبهيمة لا يتفكر في شيء، همه بطنه وفرجه ومسايرة ركبه، فهذه السماوات والأرض لا تثير اهتمامه وفضوله، كما لو كانت خلقت عبثا، كما أخبر الله عنهم في قوله :

﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار﴾

فالكافر يعيش في عمى، غير آبه بما يحيط به كل همه حياته الدنيا، لذلك يجعل لله ندا - رغم كون هذا الند لم يخلق ولا ذبابة - ظلما وعدوانا، حيث أخبرنا ربنا عنهم في قوله:

﴿الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون﴾

إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم بدأ في التفكير في ملكوت السماوات والأرض ليكون من الموقنين، فعلى متبع ملته أن يسير على نفس النهج ليصل لنفس النتيجة التي وصل إليها أبونا صلى الله عليه وسلم، هذا التفكير بدأ في النظر من حوله إلى مجتمعه وآلهته التي يعبد من دون الله، هل هذه آلهة تستحق العبادة أم أنها خلاف ذلك ؟! 

إن هذا السؤال لا يصدر إلا من شخص متجرد من التراث طالب للحق، يحترم ذاته ولا يقبل أن يكون بيهمة تساق في قطيع البهائم البشرية، لذلك عليك أنت أيضا أن تطرح هذا السؤال على نفسك وتحاول الإجابة عليه كما أجاب أبونا إبراهيم حيث وصل إلى نتيجة حتمية مفادها أن قومه في ضلال مبين لعبادتهم الأصنام من دون الله، حيث أن الأصنام لا تنفعهم ولا تضرهم ولا تسمعهم أصلا حيث قال في موضع آخر 

﴿قال هل يسمعونكم إذ تدعون﴾﴿أو ينفعونكم أو يضرون﴾﴿قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون﴾

فهل نحن أيضا في واقعنا المعاصر عندنا أصناما نعبدها من دون الله ؟!

آلهة أقوامنا

إن الكثير منا سيجيب بالنفي ولا شك، لأنه يتصور أن العبادة هي مجرد الشعائر، وليست الخضوع والتذلل والطاعة كما بينا في مقال معنى العبادة، كما أن الكثير منا يتصور أن الأصنام هي مجرد حجارة صماء وتماثيل، وما دامت لا توجد لدينا تماثيل نعبدها، فنحن في أمان من أن تكون لنا أصنام نعبدها من دون الله، لذلك سوف أعيد نفس السؤال السابق ولكن بصيغة أخرى حتى تتمكن من الجواب فأقول : 

هل عندنا جهات أو أشياء نخضع لها مع الله عز وجل؟!

هذا السؤال بهذه الصيغة هو في الحقيقة مرادف السؤال الأول، فقط غيرنا أصنام بأشياء أو جهات، وغيرنا نعبدها بنخضع لها التي لها نفس المعنى، فهل تستطيع الجواب الآن؟!

لا شك أن اللائحة تطول جدا حين نريد أن نعدد كل ما نخضع له من دون الله، ولكن سأقتصر على ذكر أهم الآلهة التي يعبدها أقوامنا في هذا الزمان بخضوعهم لها فأقول 

إن أول إله يخضع له أقوامنا هو أقدم إله عبدته البشرية من دون الله، إنه تراث الآباء، نعم تراث الآباء فنحن في الحقيقة مسلمون للتراث، ولسنا مسلمون لله عز وجل، وهذه هي الحقيقة المرة وإليك دليلين على ذلك 

أول دليل هو كون الغالبية الساحقة منا تدعي الإسلام ليس قناعة بالإسلام - وإن ادعتها - ولكن تقليدا لآبائهم ليس إلا، فهم على دين آبائهم بغض النظر عن ماهية ذلك الدين فمن كان أبوه على مذهب ما، فهو سيأخذ نفس المذهب، ومن كان أبوه على طريقة ما فهو سيأخذ نفس الطريقة، ومن كانت هذه حاله فهو ليس مسلما لله، وإنما متبعا للناس كما بينا من قبل في شروط الإسلام القناعة وعدم التقليد، وخير دليل على ذلك أنك إذا سألت أحدهم أن يثبت لك بالدليل أن محمدا رسول الله وأن الإسلام هو دين الحق لم يستطع، لأنه لم يكلف نفسه يوما بالبحث، ولم يهتم هل هو على حق أو باطل، فهو كغيره البهائم البشرية التي تتصرف كما لو كان هذا الكون خلق عبثا تماما كما أخبر الله عن الكافرين في قوله: 

﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار﴾

الدليل الثاني حين يتعارض التراث مع شعائر الإسلام المعلومة بالنص، هنا تتجلى عبادة التراث فالمرء منا يعصي الله طاعة لتراث آبائه، وهذا كثير جدا مما يثبت أننا نخضع للتراث أكثر من الله عز وجل، ومن عصى التراث تحل عليه لعنة المجتمع، وهي ضريبة قاسية حالت بين الكثير من الناس وبين الإسلام 

فهل أنت أيها القارئ من عبدة التراث كغيرك، أم لا؟! 

أنت وحدك من يستطيع الجواب ويعرف قرارة نفسه، وهل إيمانه مبني على أدلة قطعية، أم أنه اتباع لآباءه، لو كان آباؤه نصارى أو يهودا لكان مثلهم ؟! 

الإله الثاني المعبود عندنا بكل وضوح هو الأنظمة الطاغوتية التي تحكم بغير شرع الله وتشرع للناس قوانين يخضع لها عبادها، ويتحاكمون إليها وربنا يقول:

﴿أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم﴾

﴿ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا﴾

وهذه هي الحال عندنا اليوم، فكل أقوامنا عابدين لطواغيتهم بخضوعهم لهم فلا أحد يعترض على قوانينهم، بل الكل يهرع إلى محاكمهم ليتحاكم إليها، ويبارك الطاغوت ويمجده.

هذه الآلهة لا يسلم من عبادتها إلا اثنين مجاهد يصارح بدعوتها إلى الإسلام كما فعل الأنبياء (انظر سمات دعوة الأنبياء)، وليس كما فعلت التنظيمات التي تنتسب إلى الجهاد والتي تكفر الطاغوت وتمسلم عباده، أو مهاجر في أرض الله الواسعة، وما سوى ذلك هو عابد لها بخضوعه لها كما سبق وبينا في مقال المؤمن عزيز والاستضعاف جريمة، فانظر في أمرك واعلم أنه ليس بإمكانك الفرار من الله أو خداعه ولن ينجيك سوى الصدق

الإله الثالث المعبود عندنا هم الأحبار الذين يفتون برأيهم وهو إله عبدته الأمم من قبلنا حيث أخبر الله عنهم في قوله:

﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون﴾

تكمن عبادة الناس لهم في طاعتهم من دون الله، فالناس عندها إذا قال الشيخ كذا، انتهى الأمر، ووجبت الطاعة فالشيخ مجتهد وهو أدرى بما يقول، وأفهم منا للوحي نحن معشر العميان الذين سلمنا عقولنا لمن لم نؤمر باتباعه ولن يسألنا ربنا عنه ولم يجعل فيه حجة، ولكن بالرغم من ذلك وبأمر من إلهنا المسمى التراث نمجد هذا الشيخ ونعتبره حجة بيننا ونطيعه، والشيخ أيضا بدوره يأمر بتمجيد التراث وتقديسه، فهل أنت سالم من عبادة الأحبار ؟! 

تلك بعض الآلهة التي نعبد من دون الله، وهي لا تملك لا نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا تسمع من نفسها أو تعقل، فكل ذلك مرده لله وحده. 

إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم عند ملاحظته بطلان آلهة قومه، كان بوسعه أن يسكت، ولا يضر بمصالحه الدنيوية، ويكتفي بالإنكار في قلبه، ولكنه لم يسكت وأنكر، فلماذا ؟! 

إن إبراهيم الذي ينظر في ملكوت السماوات والأرض، ليعلم علم اليقين أنه خلق لغاية أعظم وأسمى من فتات الدنيا، يعلم يقينا عظمة الجرم الذي وقع فيه قومه، وأن السكوت عليه خيانة لأمانة انكار المنكر وعدم السكوته عليه، وخيانة لمجتمعه حيث يراهم في ضلال مبين ثم لا يبين لهم وينصحهم، وما كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم ليخون أبدا، فليست الخيانة من شيم المؤمنين، فما أنت فاعل ؟! 

هل ستتأسى بإبراهيم صلى الله عليه وسلم وتنصح قومك وتعلن لهم ضلالهم المبين حيث يعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم كما بينا سابقا، أم أنك ستقرأ هذه السطور وتظل كما كنت منهمكا في فتات الدنيا ؟!

أيها القارئ دعني أكن صريحا معك، إنني في هذه السلسلة أكتب لمن أراد أن يتبع ملة إبراهيم خطوة بخطوة، وإذا عجزت عن الخطوة الأولى فأنت عما يليها أشد عجزا، حيث أن ما يليها ابتلاء وتعذيب كما رأينا في طريق الجنة، فخذ قرارك من الآن وإلا فلن تأخذه أبدا، وابدأ بتنفيذ خطوات ملة إبراهيم لتصل لما وصل إليه، وليس لديك عذر فقد بينت لك بعض الآلهة الباطلة التي يعبدها قومنا فماذا تنتظر ؟!

author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

3 تعليقات
إرسال تعليق
  1. حين تقول:
    تكمن عبادة الناس لهم في طاعتهم من دون الله، فالناس عندها إذا قال الشيخ كذا، انتهى الأمر، ووجبت الطاعة فالشيخ مجتهد وهو أدرى بما يقول، وأفهم منا للوحي نحن معشر العميان الذين سلمنا عقولنا لمن لم نؤمر باتباعه

    ماذا تريد منا؟! هل تريد منا أن نكون كلنا علماء؟! أم تريدنا أنتخطى العلماء ونفسر القرآن مباشرة ونحن عجم ؟!

    قرأت المقال وهو مهم ولكن في هذه النقطة لم توفق، نحن لانطيع الشيخ من دون الله ولكن بأمر من الله هو من قال فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
    أرجو التوضيح جزاكم الله خيرا

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا جزيلا على الاستفسار لتوضيح المشكل
      لا أحد يقول أن كل الناس يجب أن يكونوا علماء، ولا أحد ينفي دور العلماء، ولكن من هم العلماء ومنهم الذين قصدت في مقالي هذا؟!
      أخي الكريم العلماء جمع عالم وهم من علم الوحي وعمل به، هؤلاء هم العلماء ومهمتهم أن يبلغوا للناس وحي الله عز وجل الذي ورثوه ولا يكتموه، فإذا استفتيت أحدهم يقول لك قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء هم العلماء، من سواهم ليسوا بعلماء بل آلهة يفتون الناس بآرائهم وتعبدهم الناس كما أخبر ربنا عن سلفهم
      اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله
      وهؤلاء هم الذين ينتشرون في زماننا فإذا سالت الواحد منهم ما حكم كذا يجيب برأيه ولا يقول لك هذا حكم الله،أو قال الله أو قال رسول الله، فتنقلب وأنت تعتقد أن عندك حكم الله والحقيقة أن عندك رأي الشيخ الذي إذا اتبعته تكون عبدت الشيخ وسيتبرأ منك يوم القيامة

      حذف
    2. هذه المحاضرة على اليوتيوب يشرح فيها المحاضر هذا الموضوع بوضوح

      https://youtu.be/hs_Bx1KNyXk

      حذف

إرسال تعليق

فهرست المقال