القائمة الرئيسية

الصفحات


الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، والصلاة والسلام على الداعية إلى ربه بإذنه، والهادي إلى صراط مستقيم، وبعد

رأينا في المقال السابق من هذه السلسلة كيف أعلن إبراهيم صلى الله عليه وسلم التوحيد بإعلانه البراءة من الشرك ثلاث مرات وإعلان التوجه لله مرة واحدة، وكيف أنه بإعلانه هذا يتحدى قومه ودينهم ومقدساتهم ولذلك بدأ مرحلة جديدة من حياة المؤمن هي مرحلة الدعوة والمواجهة، وهي التي سوف نسلط عليها الضوء في مقالنا هذا فنقول 

إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين حمل مشعل التوحيد وبدأ بدعوة قومه، اتسمت دعوته بالحجة الدامغة، والجرأة في الطرح، جرأة تلزم محاوره بالتسليم له كما يتبين من هذا الحوار الشديد الصراحة والوضوح بين إبراهيم وقومه: 

﴿ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين﴾﴿إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون﴾﴿قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين﴾﴿قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين﴾﴿قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين﴾﴿قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين﴾

فإبراهيم صلى الله عليه وسلم، لم يواري أو يداهن، وقد كان صريحا في دعوته، صراحة تجعل المدعو ملزما بالرد بصدق وقد صدقوا في قولهم:

﴿قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين﴾

وكذلك كل الكفار في كل الأزمان، إنما يعبدون تراثهم الذي ورثوه عن آباءهم يتمسكون به لكونه جزءا من ذواتهم، وليس بالضرورة قناعة منهم به، وإنما لكونه جذورهم فهم يتمسكون به.

كفارنا ليسوا بدعا من الكفار، ولا خير من أولئكم، لذلك تجدهم ينتمون لتراثهم ويفتخرون به، ولو لم يتقيدوا به، أو يعرفوه أصلا، ألا ترى الواحد منهم يعيش عيشة الملحد، ولا يطبق من الإسلام ولا شعيرة واحدة، ومع ذلك إذا قلت له أنه كافر يغضب ويزبد ويرعد، ليس حبا منه في الإسلام، ولا حمية منه للإسلام، وإنما لكونك بتكفيرك له تقطعه من تراثه وجذوره، وهذا ما لا يقبله أبدا، ويناصبك العداء بسببه، بالرغم من أنك لم تزد على حقيقته ونصحت له. 

مثال آخر ظهر بكل وضوح في ردة فعل شعوبنا على الرسوم المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث انطلقت المسيرات واجتاح الغضب الشوارع، نصرة كما نزعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل كان الدافع فعلا نصرته صلى الله عليه وسلم ؟!

إذا كان الدافع نصرته صلى الله عليه وسلم ونحن صادقين في حبه فلماذا لا نتبعه في حياتنا فعلا ؟! 

ولماذا اتخذنا أئمة نتبعهم دونه صلى الله عليه وسلم، طاعنين بلسان حالنا في بلاغه وإمامته كما سبق وبينا في مقال الإمامة في الدين؟

أيهما أشد إساءة للنبي صلى الله عليه وسلم، الذي يرسم رسوما كاريكاتيرية في مجلة ملحدة، أم الشيخ المفتي الذي يفتي بكراهة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يفعل شيوخ المتمذهبة ؟

لا شك أن المفتي بكراهة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد إساءة من الرسام الكافر، ولكن المفتي يحظى بقداسة التراث إله الجماهير، بينما الرسام لا يحظى بها، ومن ثم قامت الجموع ضد الرسام، وتركت الشيطان المفتي بينها ومجدته وقدسته، لأن المحرك لها ليس حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فقط الحمية لتراثها والذي رسول الله صلى الله عليه وسلم جزء منه لا غير، للأسف الشديد.

بالعودة إلى موضوعنا على الداعية اليوم الذي يتبع إبراهيم صلى الله عليه وسلم في دعوته أن يكون على بصيرة من إله قومه، ويعلم أنه التراث ولو تغيرت مظاهره، فكما كان عند قوم إبراهيم حجارة، هو عندنا أديان مختلقة ومختلفة نسميها مذاهب وطرق، ولها سدنتها وعبادها وكهنتها الذي يعيشون على وجودها والذين سيحاربون الدعوة بكل ما أوتوا.

وفعلا لا يمكن أن يمر هذا الإعلان من إبراهيم صلى الله عليه وسلم دون أن يلقى ردا من قومه، فإبراهيم خطر على الأمن القومي، هذا الرد تغيرت أساليبه مع تغير أساليب دعوة إبرهيم صلى الله عليه وسلم، فقد بدؤوا بالسخرية منه وتجاهله، يظهر هذا في قولهم:

﴿قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين﴾

وهذه المرحلة هي أشد مرحلة قد يتعرض لها الداعية، حيث أن تأثيرها أشد وأبلغ مما سواها، فحين يدعو الداعية الناس، والناس تتجاهله تماما، بعد فترة سيحس بأن دعوته لا فائدة ترجى منها، وعليه أن يتوقف، فقد بلغ وأعذر إلى الله وأنذر، وهذه العقبة من أشد العقبات التي على الداعية أن يستعد لها نفسيا، ويخطط للتغلب عليها، حتى يجبر المدعو على التعامل مع الدعوة بالجدية المطلوبة، فهي ليست نزوة شاب ما تلبث أن تخبو.

وهذا بالضبط ما فعله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فحين واجهوا دعوته بالاستهتار واللامبالاة، غير أسلوبه فهددهم بأنه سيكيد لآلهتهم في قوله:

﴿وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين﴾

هذا التهديد منه صلى الله عليه وسلم لآلهتهم، جعل قومه يغيرون من أسلوب السخرية إلى التهديد،  وذلك بأن يخوفوا إبراهيم صلى الله عليه وسلم من هذه الآلهة، يظهر هذا في قوله سبحانه:

﴿وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون﴾﴿وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون﴾﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾

نعم كيف يخاف ما يشركون به، في نفس الوقت هم لا يخافون أنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ؟!!

كيف للداعية إلى الله عز وجل أن يخاف من الطاغوت ويهابه، وهو مؤمن بالله عليه متوكل ؟!! 

هذا عين المحال، والذي يخاف الطاغوت خوفا يمنعه من الدعوة إلى الله كما فعل الأنبياء، وفي نفس الوقت يبقى تحت سلطانه وهو قادر على الهجرة، مشرك بالله حيث جعل خيفة الطاغوت كخيفة الله أو أشد، فخوفه لم يعد ذلك الخوف الفطري وحسب، بل تجاوز الخوف الفطري إلى العبادة حيث منع صاحبه من الصدع بالحق أمام الطاغوت كما أمر الله في قوله :

﴿فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين﴾

فهذه الآية ليست خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما تخاطب كل الدعاة الذين يتبعونه في سبيله في الدعوة إلى الله على بصيرة. 

للأسف الشديد ينتشر الكثير من المشركين الذين يلبسون لباس الدعوة، ولكنهم يعبدون الطاغوت بخوفهم المفرط منه، فتراهم يتعذرون بأتفه الأسباب، كل الناس عندهم مخابرات، يخشون أن يفتضح أمرهم، وهم مع هذا يدعون التوحيد وملة إبراهيم، وإبراهيم منهم براء، فهو إمام المؤمنين لا يخاف الطاغوت ولا يمكن أن يخافه أصلا وهو مؤمن بالله كما أخبر الله عنه.

بالرغم من تغير الخطاب عند قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم، إلا أن التعاطي مع دعوته لا يزال على المستوى الفردي ولم تبلغ كل المجتمع، وهذا ما لا يقبله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فهو يريد أن يبلغ كل قومه، لا بعضهم، كما أنه أقسم، وسيبر قسمه، فلم يكن صلى الله عليه وسلم ليقول ما لا يفعل، معاذ الله. 

نفذ إبراهيم وعيده، والذي كان الهدف منه جعل قضيته قضية رأي عام، وليس الهدف تكسير الأصنام في حد ذاته، فقد ترك كبيرهم ليقيم عليهم الحجة به، حين يرجعون إليه، وهذا مراده صلى الله عليه وسلم، حيث عبر القرآن عنه ب "لعل" ولعل تفيد الرجاء، فهو يرجوا من تكسير آلهتهم وترك كبيرهم أن يرجعوا إليه وتصبح قضيته قضية الرأي العام. 

﴿فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون﴾

إبراهيم حين أقدم على هذا العمل، لم يضع في حسبانه غضب قومه، ولا بطشهم، فكل ذلك لا يهمه ولا يعنيه في شيء، إنما همه بلاغ دعوته للكل، وهذا هو هم الداعية إلى الله حقا، الذي لا هم له سواه.

لقد كانت ردة فعل قومه كما توقع بالضبط حيث أخبر الله عنهم في قوله: 

﴿قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين﴾﴿قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم﴾﴿قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون﴾﴿قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم﴾﴿قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون﴾﴿فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون﴾﴿ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون﴾﴿قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم﴾﴿أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون﴾

لقد تحقق لإبراهيم صلى الله عليه وسلم ما أراد، حيث جمع الناس كلهم ليسمعوا بيانه الواضح الذي لا لبس فيه: 

﴿قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم﴾﴿أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون﴾

وهذا ما على الداعية اليوم أن يقوم به، حيث يبحث عن وسيلة أو حيلة يسمع الناس كلها بها دعوته مهما كلفه ذلك، وعليه أن يتوقع بعدها أن يلاقي ما لاقى إبرهيم صلى الله عليه وسلم، فمن سار على الدرب وصل، وفي درب إبراهيم محاولة حرقه بالنار، حيث أخبر ربنا عز وجل:

﴿قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين﴾

فقد ينتهي المطاف بالداعية في هذه المحطة من درب إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فيحرق ويفوز الفوز الكبير كما حدث لأصحاب الأخدود، وقد ينجيه الله من الحرق كما نجى إبراهيم : 

﴿قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم﴾

ليواصل الدرب الوعر الشائك، الموصل إلى الجنة بإذن الله، فهل أنت ماض في درب إبراهيم والأنبياء من بعده، أم بائع آخرتك بدنياك والعياذ بالله ؟!

author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

فهرست المقال