القائمة الرئيسية

الصفحات

كشف تحريف الكلم : الاختلاف من مهلكة إلى رحمة

﴿وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾

الحمد لله القائل في كتابه العزيز
﴿وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾
والصلاة والسلام على القائل
ذروني ما تركتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم 
وبعد

أواصل مستعينا بالله سلسلة كشف تحريف الكلم لنفضح شياطين الإنس الذين حرفوا الدين وألبسوا الحق بالباطل، وبعدما بينت في المقال السابق كيف صدوا الناس عن القرآن والسنة فسهل انقيادهم لأن العصمة من الضلال إنما جعلها اللّٰه في التمسك بكتابه وسنة نبيه فإذا حيل بين المرء وبين فهم القرآن والسنة صار كالقشة تتقاذفها تيارات الضلال فلا نور لديه ليكشف الحق من الباطل فأنى له الهداية ؟ بعدما بينا ذلك نواصل اليوم لنكشف تحريف خطير كان لابد منه في خطتهم الماكرة حتى لا يبقى للمرء أي مرجع يرجع إليه سواء كان من القرآن والسنة أو كان من فطرة سليمة، فيضمنوا بذلك ولاءه الأبدي ويتحول من متلقي للخبث إلى مدافع عنه كما هي الحال اليوم في أغلب المنتمين لهذه الأمة من الخاصة والعامة .

إن التحريف الذي سأناقش هو كيف حرفوا حقيقة الإختلاف من مهلكة كما نص عليه رسول اللّٰه ﷺ إلى رحمة للأمة بزعمهم، وذلك من خلال القرآن والسنة، ثم من خلال الرد على الشبه التي يستخدمها شياطين الإنس للترويج لفكرتهم الشيطانية التي قلبوا بها الموازين فصار الباطل حقا والحق باطلا عند الناس.

الإختلاف في القرآن

ناقش القرآن موضوع الإختلاف وبين سببه الحقيقي حين قال: 
﴿كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾

فبين سبحانه أن الدافع الحقيقي للاختلاف بين الناس سببه البغي بينهم فكل يسعى ليكون له قول يميزه عن غيره في حين أنه لم يؤمر بذلك إنما أمر بالسمع والطاعة وحسب، والمتأمل لحال الأمة اليوم وقديما يجد هذا الوصف دقيقا تماما فجل المذاهب التي ظهرت سواء منها العقدية أو الفقهية إنما ظهرت بسبب البغي حيث أنهم بحثوا فيما لم يكلفوا به مطلقا وتركوا ما أمرهم اللّٰه به من السمع والطاعة وسأضرب لذلك مثالين.

نأخذ على سبيل المثال من الفرق العقائدية المعتزلة وقضية خلق القرآن التي عملوا عليها وصارت فرق بين المعتزلة وغيرهم، لو تأملنا هذه الفتنة التي بدأها المعتزلة لوجدنا أن سببها البغي، فالله لم يكلفهم مطلقا بالبحث هل كلامه مخلوق أو غير مخلوق إنما كلفهم بالسمع والطاعة وحسب، فظهرت هذه الفتنة المقيتة بسبب البغي بين الناس وكذلك الحال لبقية الفرق العقدية .

بالنسبة لمثال على الإختلافات المذهبية التي لا تكاد تنحصر سآخذ اختلافهم الشديد حول الباء في قول الله وامسحوابرؤوسكم.

فلقد اختلف القوم أشد الاختلاف، فمنهم من قال لابد من مسح الرأس كله، ومنهم من قال نصفه يجزئ ومنهم من قال الربع ومنهم من قال ثلاث شعرات تكفي.

والدليل أن كل هذا باطل وبغي بين الناس أن الآية لم تنزل من السماء عليهم مباشرة، بل نزلت على رسول أمين كلفه اللّٰه ببيان الدين، وقد مسح رأسه فأقبل وأدبر وانتهى الأمر، ولكن لو اكتفينا بذلك وقلنا سمعنا وأطعنا كما قال الصحابة رضوان اللّٰه عليهم، لما كان لنا أتباع ولما تميزنا عن غيرنا فنمر دون أن نذكر، وهذا لا يقبله من عشش الشيطان في عقله، لأنه باع آخرته بدنياه نسأل اللّٰه السلامة مما أصابهم .

أشارت الآية الكريمة إلى أمرين أساسيين في الاختلاف بين الذين آمنوا، وهما إمكانية وقوعه وهداية اللّٰه لهم فيما اختلفوا فيه من الحق، وهذا النوع من الاختلاف ليس كسابقه بغي بين الناس إنما هو اختلاف متوقع سببه غياب بعض النصوص عن بعضهم فيتمسك بما علم سابقا من النص ويزول الاختلاف متى ظهر النص وهذا النوع من الاختلاف سهل جدا يحل بمجرد توفر النص للطرفين وهذا هو الذي نجده بين الصحابة رضوان الله عليهم وهو قليل جدا وليس له كبير أثر، بخلاف الاختلاف الذي سببه البغي بين الناس حيث لا يمكن حله أبدا لأن دافعه الهوى وليس التمسك بالنص .

الاختلاف ليس من عند اللّٰه

يقول ربنا سبحانه
﴿أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾
حين يكون الخلاف هو السمة الغالبة وليس سببه غياب بعض النصوص عن البعض نعلم يقينا أنه ليس من دين اللّٰه الذي أنزل، بل هو من أهواء البشر، وهذا كاف لفضح دين الذين بدلوا نعمة اللّٰه كفرا حيث رغبوا عن وحيه الذي أنزل واتبعوا آراء البشر.

الوحي إنما أتى لحل الاختلاف

يقول اللّٰه سبحانه:
﴿وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾
لاحظ الاستثناء بعد النفي ليؤكد على هذا المعنى وأن الكتاب لم ينزل إلا لبيان ما اختلف فيه، فكيف يصير الوحي نفسه مصدرا للاختلاف كما يزعم أتباع المذاهب والفرق ؟

إن المرء أمام هذه الآية الكريمة على مفرق الطريق فإما يكون مؤمنا بالله كافرا بالطاغوت فيصدق بما أخبر اللّٰه به ويعلم أنه لا راد لما أراد اللّٰه؛ وإما يكون كافرا بالله مؤمنا بالطاغوت فيكذب الآية الصريحة ويردد بلا خجل مقولة شياطين الإنس الذين يقولون بل الكتاب هو مصدر الاختلاف بدل أن يكون سببا في انهائه، فاختر أيها القارئ أي الفريقين أنت ؟

الاختلاف كفر بعد إيمان

يقول الحق سبحانه محذرا لنا من الاختلاف: 
﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم﴾﴿يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون﴾﴿وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون﴾
لاحظ كيف عد الاختلاف كفر بعد إيمان يسود وجه صاحبه يوم القيامة نسأل اللّٰه السلامة من ذلك، ومما يؤكد على هذا المعنى تقسيم اللّٰه الناس بين مختلفين ومرحومين حين قال:
﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين﴾﴿إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾
فاستثنى اللّٰه سبحانه من رحم من المختلفين، ليتأكد المعنى السابق أن الاختلاف في الدين هو عين الكفر الذي علينا أن نحذره وأنه مهلكة عكس ما يروج الضالون من كونه رحمة فتأمل هداك اللّٰه.

أكتفي بهذا القدر في القرآن والمتدبر لكتاب الله يعلم يقينا أن الاختلاف لم يرد إلا على سبيل الذم، وأنه سبب في العذاب والعياذ بالله، فعليك أيها القارئ بالعودة لكتاب ربك ليس لتعلم خطورة الاختلاف وحسب بل لتنهل من النعمة العظيمة التي أنزل ربك إلى عباده المؤمنين.

شبهات حول الاختلاف

استخدم عباد الضلال شبهات عدة لتمرير الاختلاف وجعله مستساغا بين الناس مكذبين بذلك صريح القرآن كما بينا في الآيات السابقة، والحق أن شبهاتهم لا تكاد تنحصر ففي كل فترة يقذف شياطين الإنس والجن بشبهات جديدة لصد الناس عن الحق، لذلك سأرد على بعض ما علمته منها زيادة في البيان ففي ما سبق من آيات اللّٰه موعظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

شبهة أحاديث مدح الاختلاف

يروج أهل الباطل لاختلافهم بحديث مكذوب ينسبونه لرسول اللّٰه ﷺ وهو "اختلاف أمتي رحمة" والرد على ذلك بأن الحديث لم يصح عن رسول اللّٰه ﷺ سندا، ومتنه مردود لمناقضته الآيات الكثيرة والأحاديث أيضا فقد ثبت عن رسول اللّٰه ﷺ نعته الاختلاف بالمهلكة لمن كان قبلنا في الحديث الذي صدرت به المقال كما ثبت أمره ﷺ باعتزال كل الفرق في حديث حذيفة بن اليمان فلو كان الاختلاف رحمة، لكانت الفرق من جملة المسلمين ولما أمر رسول اللّٰه ﷺ باعتزالها مما يثبت بطلان متن الحديث الذي يردده العوام بإيعاز من شياطينهم .

شبهة اختلاف الأفهام

يحتج أهل الاختلاف بأن اختلافهم أمر حتمي لا مناص نظرا لاختلاف عقول البشر ومن ثم فهذا يفهم شيئا والآخر سيفهم خلافه وهكذا، والحق أنهم في قولهم هذا يلبسون على الناس الذين يجهلون طبيعة الوحي وهم في عمى، وبالتالي فهي حجة مستساغة عند الذين جهلوا أن الوحي نور مبين، فهو بالنسبة لهم مشكل عسير لم يبين شيئا كأنه أحجية صعبة يستحيل أن نتفق على معناها، والحق خلاف ذلك فوحي اللّٰه نور مبين أشد سطوعا من الشمس في ضحاها لا يختلف فيه إلا العميان الذين لم يروا الشمس يوما، لذلك شبهتهم هذه دليل على عماهم أعاذنا الله مما أصابهم

شبهة حديث بني قريظة

يحتج أصحاب الاختلاف بأن الصحابة اختلفوا في مراد رسول اللّٰه ﷺ فمنهم من صلى قبل أن يصل ومنهم من لم يصل، ورسول اللّٰه لم يعنف أحدا منهم، والاحتجاج بهذا باطل لسببين.

أولا ليس عندنا اليوم رسول اللّٰه ﷺ ليقر اختلافكم.

ثانيا الاحتجاج به اتباع للهوى فقد ثبت أن الصحابة أيضا اختلفوا ولم يقر رسول الله الطرفين كما ثبت أنه أحيانا يقر طرف ويخطئ آخر، مما يدل على اتباع الهوى لتمرير ما حرمه اللّٰه ورسوله ﷺ

أيها القاريء عليك بكتاب ربك وسنة نبيك تسلم في حياتك ويسلم لك دينك وتسعد في الدارين أما إن أبيت فابشر بضنك العيش والضلال فلن تجد مسألة من مسائل الدين إلا ولشركائك فيها أقوال متناقضة تماما فكيف الهدى وقد أعرضت عنه؟
author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

فهرست المقال