القائمة الرئيسية

الصفحات


الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والصلاة على من أدى البلاغ المبين، ومن تبعه إلى يوم الدين، وبعد

إن الناظر في تاريخ الفقه في هذه الأمة، يرى التداخل بين مفهوم القضاء ومفهوم التشريع لدرجة تجعل المفهومين متطابقين تماما عند كثير من الناس، يظهر ذلك حين يستدل بطريقة صناعة حكم قضائي على جواز نفس الطريقة في صناعة الفتوى، لأن الفتوى والحكم القضائي بالنسبة لهذا المستدل أمر واحد ولا فرق بينهما، مثال ذلك الاستدلال بالرأي في صناعة الفتوى نظرا لكون بعض الصحابة قضى برأيه في نازلة قضائية مثل حادثة العول في التركة، فالفتوى والحكم القضائي سيان بحسب هذا المستدل، فهل الأمر كذلك فعلا؟

إذا بحثنا في لسان العرب نجد أن التشريع جمعها تشريعات، وهي مصدر فعل شرَّعَ، ومعناه سن القوانين، والشريعة هي مجموعة القوانين التي سن الشارع للأمة كلها والتي تضم الحلال والحرام، وتضم الشعائر التعبدية، والأحكام التنظيمية للمعاملات الاقتصادية، والاجتماعية، والقضائية والسياسية، وكل ما يتعلق بالإنسان ومحيطه من قوانين، كل ذلك يطلق عليه الشريعة الإسلامية، والله وحده من له الحق المطلق الحصري في تشريع ما يشاء فنحن عبيده وملكه كما بينا في مقال

أما إذا بحثنا عن معنى القضاء في اللسان فنجده الحكم، بمعنى أنه فض النزاع بين المتقاضين، لا يلزم من سواهم، ومن هنا بدأ الاختلاف بين القضاء والتشريع، فالتشريع ملزم لكل الأمة، أما القضاء فهو خاص بالمتنازعين، لا يلزم من سواهم. 

القد بين الله عز وجل الأحكام العامة التي على القضاة أن يلتزموا بها فقال عز وجل:

﴿إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا﴾

﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾

فالقاضي ملزم بتوخي العدل قدر المستطاع، وقد يفلح في تحقيق العدل وقد يخفق كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:

ﺇﻧﻤﺎ ﺃﻧﺎ ﺑﺸﺮ، ﻭﺇﻧﻜﻢ ﺗﺨﺘﺼﻤﻮﻥ ﺇﻟﻲ، ﻓﻠﻌﻞ ﺑﻌﻀﻜﻢ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺃﻟﺤﻦ ﺑﺤﺠﺘﻪ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ، ﻓﺄﻗﻀﻲ ﻟﻪ ﻋﻠﻰ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﺃﺳﻤﻊ ﻣﻨﻪ، ﻓﻤﻦ ﻗﻀﻴﺖ ﻟﻪ ﺑﺸﻲء ﻣﻦ ﺣﻖ ﺃﺧﻴﻪ، ﻓﻼ ﻳﺄﺧﺬﻥ ﻣﻨﻪ ﺷﻴﺌﺎ، ﻓﺈﻧﻤﺎ ﺃﻗﻄﻊ ﻟﻪ ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺭ.

الحديث وتخريجه ورواته

والقاضي في كلتا الحالتين مأجور، لأنه حاكم وداخل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

ﺫا ﺣﻜﻢ اﻟﺤﺎﻛﻢ ﻓﺎﺟﺘﻬﺪ ﺛﻢ ﺃﺻﺎﺏ، ﻓﻠﻪ ﺃﺟﺮاﻥ، ﻭﺇﺫا ﺣﻜﻢ ﻓﺎﺟﺘﻬﺪ ﺛﻢ ﺃﺧﻄﺄ، ﻓﻠﻪ ﺃﺟﺮ.

الحديث وتخريجه ورواته

كما أن الله بين بعض الأحكام التفصيلية، وبين طرق التقاضي، وطريقة صناعة الحكم القضائي، وألزم القاضي بالعدل الذي هو مجبر على حل النزاع بين المتنازعين.

إن هذه السعة التي أعطى الله للقاضي التي لابد منها ليقوم بوظيفته، نجد عكسها عندما يتعلق الأمر بالتشريع، فالله حذر من اتباع أي تشريع لم يأت نصا من الله عز وجل في كثير من الآيات منها:

﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون﴾

﴿ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون﴾﴿إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين﴾

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد

الحديث وتخريجه ورواته

كما حذر ربنا عز وجل من القول عليه بغير علم مطلقا في قوله سبحانه:

﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾

وحرم القول عليه بغير علم في التشريع تحديدا وسماه كذبا عليه في قوله:

﴿ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون﴾﴿متاع قليل ولهم عذاب أليم﴾

والكذب على الله أعظم جرم كما أخبر الله في آيات عدة منها:

﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون﴾

فالذي يفتي بغير الوحي قرآنا وسنة كاذب على الله مستحق للوعيد، وليس مأجورا كما يتصور الذين لا يعلمون، نظرا للآيات السابقة، ولكون الواجب عليه حين لا يعلم أن يقول لا أعلم ولا يشرع برأيه.

للأسف الشديد الخلط بين مفهوم القضاء ومفهوم التشريع، جعل كثير من الناس يتصور أن المفتي كالقاضي إذا سئل عما لا يعلم، يجتهد فيه برأيه، بدل أن يقول لا أعلم، وهكذا نشأت آلاف التشريعات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي تسابق الجاهلون المشرعون في استحداثها، فالواحد منهم لا ينتظر أصلا أن يسأل، وإنما يفترض الافتراضات ويجيب عليها برأيه محرفا بذلك لدين الله.

هذا الخلط بين المفهومين الذي بدأ قديما، تم تبريره لاحقا بتعريف الفتوى والحكم القضائي بكونهما اخبار عن حكم شرعي، الفرق الوحيد هو كون الفتوى ليست ملزمة بخلاف الحكم القضائي الذي هو ملزم، وهكذا أضيف اجتهاد القاضي لشرع الله، وقياسا عليه صار رأي المفتي من شرع الله ولا حول ولا قوة إلا بالله عز وجل.

ملاحظة: لقد تمت مراجعة هذا المقال وأعيدت صياغته، للإطلاع على

author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

فهرست المقال