القائمة الرئيسية

الصفحات

كيف تم الانسلاخ من كتاب الله

الحمد لله الذي أنزل الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والصلاة والسلام على من أدى البلاغ المبين، وبعد 

سبق وأن بينا في العلاقة ما بين النقل والعقل أنه ليس لنا أمام وحي الله عز وجل غير السمع والطاعة، كما سبق وبينا في خصائص الوحي أنه مبين يسير، فلم تبق حجة في عدم اتباع الوحي، وهذا ما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم، فأخبتت للوحي قلوبهم واستناروا بنوره، واهتدوا به، إلى أن تقادم العهد وطال الأمد على البعض، فبدأ تعدي حدود الله التي حد لنا في التعامل مع وحيه، فتحولت من السمع والطاعة إلى جعل نصوص الوحي مادة للنقاش تعرض على العقول فتقبل منها ما تقبل وترفض ما ترفض والعياذ بالله، من ذلك قول بعضهم أن الله لم يكلم موسى صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله عز وجل، وازداد الأمر سوءا عندما اعتمدت تلك الأجيال منطق الأغريق للتعامل مع النصوص ومع الذات الإلهية، فظهرت الفرق العقدية المختلفة، كالأشعرية، والمعتزلة، والقدرية، ونبذ الوحي وراء الظهور. 

مع تقادم الأجيال لم يبق من نصوص الوحي إلا رسمه، فالقرآن أنزل لمجرد القراءة والتغني وحسب، فالعلم لا يطلب فيه وإنما يطلب في مثناة البشر التي امتلأت منها المكتبات، أما السنة فهي ترف فكري للتباهي عندهم، هذه الحال لم تكن لتكون لولا تعد حدود الله عز وجل، والقيام بحملة شرسة ومنظمة لصد الناس عن الوحي كمصدر للتلقي، هذه الحملة تمثلت في أنه حتى تتمكن من الاستفادة من الوحي يجب أن تتقن قبله عدة علوم منها المنطق اليوناني، والبيان والبلاغة والصرف والنحو، والتفسير، وتعرف علم الأصول فتعرف العام والخاص والمقيد والمطلق والناسخ والمنسوخ، واللائحة تطول، مما يوهم السامع أن الوحي طلاسم الاستفادة منه أمر يستحيل تحقيقه نظرا لكل هذه العواقب التي يجب تجاوزها، لذلك نكتفي بأن نقرأه ونحرص حرصا شديدا أن لا يصل إلى حناجرنا، حتى لا نضل به فنحن لا نمتلك أدوات فهمه، وفي المقابل عندنا المتون التي نسميها علمية فيها زبدة القرآن نكتفي ونريح أنفسنا مما لا طاقة لنا به. 

هذه الحملة نجحت في عزل الناس تماما عن الوحي وجعلهم يتخبطون في الظلمات لا يهتدون سببلا، كافرين بالوحي كما بينا سابقا ويصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم 

يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم

ويستوي نزول الوحي من عدمه بالنسبة لهم، فهم لا ينتفعون به، فصاروا كمن أخبر الله عنه في قوله:  

﴿واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين﴾﴿ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون﴾﴿ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون﴾

لذلك أكتب هذه السطور لأبين كذب هؤلاء الذين يصدون عن الوحي وأبين عوار منطلقهم، وأن الوحي يسير فعلا فلا تخدعنك الاسماء التي يرهبون الناس بها فأقول 

اعلم هداك الله أن ربك بين كتابه ويسره فلا عذر لك في عدم فهمه، وبين سبحانه أنه أنزل الكتاب لتدبره وتعمل بمقتضاه، فقال 

﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب﴾

وهذا يعني أنك قادر على فهمه والاستفادة منه، فالله لم يكلفك بتدبره وأنت أصلا عاجز عن فهمه كما يقول المضلون عن سبيل الله، واعلم أن ما جعلوه من شروط في فهم كتاب الله بعضه باطل كالمنطق اليوناني، وبعضه مندرج في لسان العرب، فالوحي بلسان العرب كما أخبر ربنا عز وجل في قوله 

﴿بلسان عربي مبين﴾ 

ولكن أبشر فلا يهولك قولهم، فالوحي أيسر وأبين كتاب بلسان العرب، فالله هو من بينه ويسره، لذلك لشدة يسره تستطيع فهم معاني بعض الكلمات من السياق نظرا ليسر الوحي وبيانه مثال ذلك قوله سبحانه

﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع﴾

فتفهم أن كلمة يقدر الواردة في الآية عكس كلمة يبسط ولو لم تكن تعرف معناها مسبقا، فما ذكروا من أدوات متعلقة باللسان العربي حق، ولكنها ليست مانعا لمن يفهم لسان العرب نظرا لبيان الوحي ويسره، ولو كانت حائلا لحالت دون فهم مثناتهم التي هي بلسان العرب وأهي أشد تعقيدا وغموضا من الوحي.

إن الذين يصدون عن وحي الله عز وجل يستخدمون عبارات مثل العام والخاص والمقيد والمطلق والناسخ والمنسوخ، فيتصور السامع أن هذه موانع حقيقية من فهم النص وأنها علوم صعبة التحصيل، والحق أن الأمر بعيد كل البعد من ذلك، فغاية ما في الأمر أن الإيمان يجب أن يكون بالكتاب كله، لأن الإيمان ببعض والكفر ببعض هو عين الكفر الصريح كما أخبر ربنا في قوله :

﴿... أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون﴾

فالمؤمن يجب أن يؤمن بجميع الكتاب لا بعضه، وجل وحي الله عز وجل فيما لا يلحقه النسخ أو التخصيص أو التقييد، لأنه لنسخ والتخصيص إنما يقع في الأحكام، ومع ذلك إذا تعذر الجمع بين النصين يصار إلى نسخ الأول منهما مثال ذلك قوله سبحانه في الخمر والميسر 

﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون﴾

هذه الآية لم تحرم الخمر والميسر، ولا يمكن العمل بها والعمل بقوله سبحانه 

﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾ 

لأن هذه الأخيرة حرمت الخمر والميسر، لذلك نصير إلى نسخ آية البقرة بآية المائدة، لأن الخمر لا يمكن أن يكون حلالا وحراما في آن واحد.

في حالة أمكن العمل بالنص الأول وجعل الثاني استثناء، نعمل بكلا النصين لأن الإيمان بالكتاب واجب، مثال ذلك قوله سبحانه في الميتة والدم 

﴿حرمت عليكم الميتة والدم ... ﴾ 

وحديث:

أحلت لنا ميتتان السمك والجراد

فالآية حرمت كل ميتة، والحديث استثنى السمك والجراد، فهنا نعمل بالآية في كل أصناف الميتة باستثناء السمك والجراد وبهذا نكون عملنا بالنصين في آن واحد، وهذا هو ما يعرف بالعام والخاص ومثله المقيد والمطلق، فكل ما في الأمر أن الإيمان بالكتاب كله هو القاعدة، وليس الأمر بالمعقد كما يحاول شياطين الإنس أن يوهموا السامع ليصدوه عن تدبر كتاب الله عز وجل، فأقبل على كتاب ربك وتمسك به ولا تسمع لهم فتعض يديك ندما يوم القيامة كما بين ربنا في قوله: 

﴿ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا﴾﴿يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا﴾﴿لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا﴾

فبعدم تدبرك للوحي واهتدائك به تكون قد هجرت الوحي ولو كنت تقرأه كل حين، وأنت بذلك من المجرمين عدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإعراضك عن رسالته التي أرسل بها

﴿وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا﴾﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا﴾

 فانتبه لنفسك قبل فوات الأوان.

author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

فهرست المقال