القائمة الرئيسية

الصفحات

سنة الله

الحمد لله ولا نعبد إلا إياه والصلاة والسلام على رسول الله وبعد

رأينا في مقالنا السابق عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تتسم بكونها على بصيرة، فهو صلى الله عليه وسلم كان على بصيرة من واقعه الذي يعيش فيه، وكل ما تغير الواقع والمعطيات تغيرت أساليب الدعوة مراعية للظروف، هذا الأمر يجعل معرفة واقعنا المعاصر معرفة دقيقة ضرورة حتمية، قبل الانطلاق في سبيل المصطفى صلى الله عليه وسلم في الدعوة، لأنه بحسب هذا الواقع سيعلم المرء الأدوات والأساليب المناسبة التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كانت ظروفه مشابهة لواقع اليوم، وعدم أخذ الواقع في الحسبان سيفضي بصاحبه للتخلي عن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة، حيث أن دعوته ستكون عن جهل بالواقع وليست على بصيرة منه، وهذا هو الحال فعلا، حين نرى بعض الجماعات الجهادية تحاول أن تفرض تطبيق الشريعة على شعوب مشركة أصلا، متجاهلة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كانت الأرض مشركة لم يتجاوز في دعوته التوحيد أبدا حتى تكونت الجماعة المسلمة، وتميزت في حيز جغرافي معلوم، وأصبحت ذات كيان منفصل، ساعتها بدأ بتطبيق الشريعة حيث قد بنى شجرة الإيمان قبلها والتي هي شرط في أن تثمر شريعة رب العالمين.

إن واقعنا المعاصر ليس وليد اللحظة، وإنما هو ثمرة لسنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير، لذلك قبل الدخول في بيان كيف تحولنا من الذرا إلى الثرى، يجدر بنا أن نتحدث عن سنن الله عز وجل التي يسير كل شيء وفقها ولا تتبدل مع الزمن. 

إن الله عز وجل يوم خلق الكون وضع له سنن ثابتة لاتتغير ولا تتبدل يسير وفقها، سنعرض منها بعضها نظرا لاتصالها المباشر بموضوعنا فنقول 

من سنة الله أن النصر والتمكين للمؤمنين، أي أن النصر والتمكين مشروط بشرط واحد لا ثاني له وهو الإيمان بالله عز وجل، نجد ذلك في قوله سبحانه:

﴿كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز﴾

وفي قوله :

﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾

هذا الوعد الرباني خالد لا يتغير ولا يتبدل للمؤمنين، ولقد تحقق لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم، بالرغم من انعدام كل الوسائل المادية لتحقيق النصر، بل إن الحسابات المادية تعتبر بقاءهم نصرا في حد ذاته، وذلك لكونه صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم تحولوا من لا شيء بالحسابات الدنيوية بما في الكلمة من معنى يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى أعظم قوة في العالم خلال عقد واحد من الزمن، هذا العقد عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم أنواع الابتلاء من الجوع والقحط والقتل، فكانوا يعصبون الحجارة على بطونهم، وكانو كل شهرين تقريبا في قتال ومع ذلك بعد تسع سنوات فقط يهرب أمامهم قيصر الروم في غزوة تبوك 

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إنما انتصروا بعهد الله لهم بالنصر والتمكين لأنهم وفوا بعهد الله عز وجل بتحقيقهم للإيمان وقد قال ربنا عز وجل 

﴿يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون﴾

إن علاقة الإيمان بالنصر والعزة والتمكين هي علاقة تلازمية، فحيث وجد إيمان يوجد نصر وعز وتمكين، وحيث فقد الإيمان يفقد العز والنصر والتمكين الإلهي، ويحل محله الذلة والمسكنة كما أخبر ربنا عز وجل في قوله : 

﴿وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين﴾

عهد الله بالنصر والتمكين والاستخلاف لا ينال الظالمين، بل على العكس تماما يضرب الله الذلة والمسكنة على الكافرين كما قال سبحانه 

﴿وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون﴾﴿ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون﴾

وقال عن بني إسرائيل، - وكل حديث عن بني إسرائيل هو حديث عنا لأننا على خطاهم نسير - :

﴿ … وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون﴾

فهذه سنة الله التي لا تتبدل ولا تحابي أحدا.

من سنته أيضا أنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم حيث قال :

﴿ … إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال﴾

فأي تغيير لابد أن ينطلق من الفرد أو الأمة، وإلا فسنظل في نفس الحال، فكما سلبنا الله نعمة التمكين لما تغيرنا أول الأمر كما أخبر في قوله :

﴿ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم﴾

لابد من مصارحة مع الذات ومواجهة حقيقية للواقع بهدف اكتشاف مكامن الخلل وإلا سنظل نتجرع الذل والهوان جيلا بعد جيل كما هي الحال منذ قرون، لذلك لابد من صدق وتجرد لله عز وجل وعرض التراث على مصفاة الوحي الدقيقة حتى نعرف متى تسرب لنا الخلل وكيف لنا أن نعالجه. 

للأسف الشديد ساعد عاملان في استمرار هذه الحال قرونا من الزمن، أولهما أننا نعيش بين أمم ضرب الله عليها الذلة والمسكنة أصلا، هذا الأمر جعل النصر مربوط بالأسباب الدنيوية فالكل مستوون في الكفر، فإذا أخذت أمة بالأسباب الدنيوية تفوقت على نظيراتها، هذا الأمر سبب مشكلة حقيقية عند التشخيص لكثير من الباحثين في تاريخ العالم الإسلامي، لأنهم يرون عند استعراض التاريخ لحظات انتصار متفرقة، فيحسبونها علامة على سير الأمة وفق منهج الله عز وجل، وهي في الحقيقة ليست كذلك وإنما لكوننا في تلك الفترة أخذنا بالأسباب الدنيوية للنصر أكثر من غريمنا ليس إلا.

حتى تتضح الصورة ظلت الخلافة العثمانية مهابة في أوروبا قرونا عديدة بالرغم من تفشي الشرك فيها الأبعد الحدود فهل نقول أن الله مكن لها بإيمانها ؟! 

الجواب لا طبعا، فالإيمان لم يكن موجودا حيث أن الناس في زمانها أكثرهم عبدة قبور كما هو معلوم من التاريخ، وإنما لكونها أخذت بالأسباب الدنيوية في حين أن أوروبا كانت تقبع في ظلام العصور الوسطى، وتحارب الأخذ بالأسباب الدنيوية العلمية، وخير دليل على ذلك تبدل الحال عندما أخذت أوروبا بالأسباب الدنيوية للنصر، حيث أسقطت الخلافة العثمانية وحولت أرضها إلى مستعمرات يعيش فيها ناس يمارسون الشرك وينتسبون إلى الإسلام.

الأمر الثاني الذي ساهم في عدم اكتشاف سبب الضعف عندنا حتى الآن، هو كون الباحثين في تاريخ العالم الإسلامي أنفسهم مصابين بداء الأمة التي أصيبت به قديما، هذا الأمر جعلهم يعزون الهزيمة لعوامل ثانوية وإن كانت حقيقية ويتجاهلون السبب الأكبر للنكسة، مثال ذلك مافسر به محمد قطب في كتابه واقعنا المعاصر الضعف بكونه الانفتاح على ملذات الدنيا ونعيمها وهو الأمر الذي وافقه فيه المؤرخ راغب سرحان في مقالاته عن تاريخ الأندلس، وتناسيا أن الانفتاح على الدنيا ما كان ليكون سببا كافيا من سحب الأمة من العلا إلى الثراء إذا بقيت على إيمانها بالله عز وجل فكما قلت في بداية المقال أن التمكين ليس مربوطا بشيء سوى الإيمان كما نصت على ذلك الآيات، لذلك اعتبار الانفتاح على الدنيا سببا في الهزيمة هو في حد ذاته من أعراض المرض عن الباحثين وليس السبب الحقيقي للذل والمهانة.

إن الآيات التي أوردناها سابقا تبثت بما لا يدع مجالا للشك أن مشكلة أمتنا مشكلة إيمان، وليس مشكلة أخرى، لذلك سوف نبحث إن شاء الله في هذه السلسلة التاريخ الإيماني لهذه الأمة نتلمس متى طرأ عليه التغير والتبديل ليتحول من سبب في الرفعة والعزة إلى سبب في الذلة والمسكنة، خلال بحثنا هذا ندرس تغير مفهوم الإسلام مقارنة بالإسلام كما أنزل من رب العالمين مع مرور الأيام بكل جرأة وحزم في الطرح، فالكلمة أمانة وفي ضياعها ضياعة الأمة قرونا من الزمن كما هي الحال 

إن استقراء التاريخ هو جهد بشري قابل للخطأ والتصويب لذلك أدعو القارئ إلى المشاركة الجادة والنقد البناء فما نتحدث عنه في هذه السلسلة ليس سيرة ذاتية لزيد أو عمر وإنما هو تاريخ أمتنا وتشخيص أمراضها، فالموضوع ليس حكرا على الكاتب وإنما هو موضوع القارئ أيضا لذلك مشاركة رأيك مهمة جدا فالأمة أمتك، وأنا وأنت من سيغيرها وليس أحدا آخر ولله الأمر من قبل ومن بعد.

author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  1. كيف شعوب مشركة هل تقصد أن المسلمين اليوم مشركين هذا كلام الخوارج الذين يكفرون المسلمين فيستحلون دماءهم وبهذا سفكت دماء ورملت نساء ويتمت ولدان فاتقوا الله فينا

    ردحذف
    الردود
    1. لنفرض أن الشعوب مسلمة كما تتصور، وكما يتصور كثير من الناس لماذا إذا يذل هذه الأمة ويضرب عليها الذلة والمسكنة وهو الذي وعدها المؤمنين بالنصر والتمكين ؟!
      الحقيقة مرة جدا ولكن ما لم نواجهها لن نتغير أبدا والتغيير مربوط بنا نحن فما دمنا لا نسمي المشرك مشركا ونداهن ونلبس لن يتغير حالنا مهما حدث

      حذف

إرسال تعليق

فهرست المقال