القائمة الرئيسية

الصفحات

التكفير والحكم بالإسلام في ميزان الوحي


لقد كانت مسألة التكفير ولا تزال من أعقد المسائل التي اختلف فيها الناس قديما وحديثا لما هجروا كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم، كما فعل الذين من قبلهم، فالناس منقسمون إلى فرق كل فرقة ترى غيرها ضلالا، إما لكونهم مرجئة أو خوارج، كل بحسب مفهوم الإسلام عنده، لذلك ونحن نتعلم الإسلام كما أنزل من رب العالمين علينا أن نجيب بالوحي على هذا السؤال الملح، وهو بماذا يثبت الإسلام ؟ فنعرف متى نحكم على المرء بالإسلام ومتى نحكم عليه بالكفر.
قبل الإجابة على السؤال بماذا ثبت الإسلام، ينبغي الإجابة على سؤال، هل الحكم بالإسلام حكم شرعي يدخل في باب الفتوى، أم حكم قضائي من اختصاص القاضي؟ كما ينبغي مناقشة مفهوم الحكم على المعين والحكم على العموم على ماذا يبنيان وما الفرق بينهما ؟ فأقول مستعينا بالله: 

هل الحكم بالكفر أو بالإسلام حكم قضائي أم حكم شرعي؟

إن الحكم بالإسلام، أو الحكم بالكفر، من الأحكام التي يترتب عليها كثير من الأحكام الشرعية الفورية التي لا تقبل التراخي، فالمسلم له حقوق على المسلم بعضها شرط في الإيمان، كالحب والموالاة مثلا، والكافر أيضا يترتب على تكفيره مسائل من شروط الإيمان منها البراءة والبغض وغيرها، ولذلك متى تبين الإسلام أو الكفر حكم به، وقد دل على ذلك قول الحق سبحانه: 
﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم﴾
فبمجرد علم الذين آمنوا أن قومهم مشركون وجبت عليهم البراءة منهم وحرم عليهم الاستغفار لهم إذا كانوا على شركهم، ولا يحتاج الأمر إلى انتظار القاضي أو غيره للبت في كفرهم.
وإذا لم يتبن إسلام المرء من كفره، وجب عليهم التريث حتى يتبن الحكم لقول الحق سبحانه: 
﴿يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا﴾
فمتى ظهرت قرينة تنقل المرء من الكفر إلى الإسلام وجب التريث حتى يتبين إسلامه من عدمه.
إن الذين يجعلون التكفير حكما قضائيا، يجهلون حقيقة الإسلام التي بيناها سابقا، وهي أن يسلم المرء وجهه لله عز وجل، فيكون بذلك مسلما، والكافر هو من أبى أن يسلم نفسه لله وحده قولا أو فعلا، ولن يغير شيئا من حقيقة الكافر أن الناس تعتبره مسلما، أو أنه يعتبر نفسه مسلما، حيث أنه واقع في الكفر فعلا وإن أنكر هو والناس من حوله.
إن المسلم إذا رأى ما يكفر به الكافر يحرم عليه أن يواليه، وليس له أن يواليه بعدما تبين كفره حتى يحكم القاضي بكفر هذا الكافر، لأن الله عز وجل لم يكلفه بذلك.
إن الذين يجعلون التكفير حكما قضائيا لا يفتقرون إلى أي دليل وحسب، بل يتناقضون أيضًا فيجعلون التكفير حكما قضائيا، وفي نفس الوقت الحكم بالإسلام حكما شرعيا، وهذا تناقض واضح فالذي ينطبق على الحكم بالكفر، ينطبق على الحكم بالإسلام، حيث أن كلا الحكمين اخبار عن ملة المحكوم عليه، ولكنه الإرجاء واتباع الأهواء، يسعون من خلال جعل حكم التكفير حكما قضائيا، إلى تعطيل التكفير مطلقا، وما يترتب عليه من أحكام، وبهذا يضيع الإسلام، ويصبح لا فرق بين الكافر والمسلم، فكلاهما مسلم حتى يحكم القاضي بكفر الكافر، الأمر الذي لن يحدث أبدا في زماننا، ومن ثم يشرع الكفر للناس، فهم مهما فعلوا يبقوا مسلمين ما داموا يدعون ذلك، ولا قاض يحكم بكفرهم.

الحكم على المعين والحكم على العموم 

يجب أن تعلم أن الحكم سواء على المعين، أو العموم، إنما هو حكم بالظاهر، لأنه بحسب المستطاع فربنا عز وجل يقول: 
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
وليس في الوسع غير الحكم على الظاهر حيث أن الله وحده من يعلم السرائر، ومن ثم فإن الحكم على المعين إنما يكون بما يظهر منه إن كان يظهر الإسلام حكم له بالإسلام، وإن كان يظهر الكفر حكم له بالكفر، وحكمه قطعي لزاما نظرا لكونه لما يظهر منه قطعا.
كذلك الحكم على العموم، إنما يكون بما يظهر من ذلك العموم فإن كان عامة ما يظهر من ذلك العموم الإسلام حكم له بالإسلام، وإن كان عامة ما يظهر منه الشرك حكم له بالشرك، وهو حكم قطعي في عمومه ظني في تنزيله على المعين، وذلك لكون الحكم بالعموم حكم بالغلبة، وليس حكما بالكل فكون غالبية شعب ما هم الكفرة، لا يعني أن كل فرد في ذلك الشعب كافر حتما، فقد يكون من القلة المؤمنة، التي لسبب شرعي لم تستطيع الهجرة والتمايز عن بقية المجتمع الكافر.
هذا الأمر عند التطبيق العملي يختفي تماما، فالمرء إذا كان في مجتمع ما يحكم له بحكم ذلك المجتمع حتى يتميز عنه، لأن قرينة الدار من مجموعة القرائن التي يجب أخذها في الحسبان عند الحكم على المعين، وعلى هذا دل عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن صلواته وسلامه عليه يختبر كل فرد من الذين يغزوهم، هل هو على دين قومه أم لا، وإنما كان يكتفي بالظاهر من قومه، فإن كان ظاهرهم الإسلام، حكم لهم بالإسلام، كما دلت على ذلك الحديث التالي : 
«إﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻛﺎﻥ ﺇﺫا ﻏﺰا ﺑﻨﺎ ﻗﻮﻣﺎ، ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﻐﺰﻭ ﺑﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﻳﺼﺒﺢ ﻭﻳﻨﻈﺮ، ﻓﺈﻥ ﺳﻤﻊ ﺃﺫاﻧﺎ ﻛﻒ ﻋﻨﻬﻢ، ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﺴﻤﻊ ﺃﺫاﻧﺎ ﺃﻏﺎﺭ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺨﺮﺟﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺧﻴﺒﺮ، ﻓﺎﻧﺘﻬﻴﻨﺎ ﺇﻟﻴﻬﻢ ﻟﻴﻼ، ﻓﻠﻤﺎ ﺃﺻﺒﺢ ﻭﻟﻢ ﻳﺴﻤﻊ ﺃﺫاﻧﺎ ﺭﻛﺐ، ﻭﺭﻛﺒﺖ ﺧﻠﻒ ﺃﺑﻲ ﻃﻠﺤﺔ، ﻭﺇﻥ ﻗﺪﻣﻲ ﻟﺘﻤﺲ ﻗﺪﻡ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺨﺮﺟﻮا ﺇﻟﻴﻨﺎ ﺑﻤﻜﺎﺗﻠﻬﻢ ﻭﻣﺴﺎﺣﻴﻬﻢ، ﻓﻠﻤﺎ ﺭﺃﻭا اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻗﺎﻟﻮا: ﻣﺤﻤﺪ ﻭاﻟﻠﻪ، ﻣﺤﻤﺪ ﻭاﻟﺨﻤﻴﺲ، ﻗﺎﻝ: ﻓﻠﻤﺎ ﺭﺁﻫﻢ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ: اﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ، اﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ، ﺧﺮﺑﺖ ﺧﻴﺒﺮ، ﺇﻧﺎ ﺇﺫا ﻧﺰﻟﻨﺎ ﺑﺴﺎﺣﺔ ﻗﻮﻡ، ﻓﺴﺎء ﺻﺒﺎﺡ اﻟﻤﻨﺬﺭﻳﻦ».
الحديث وتخريجه ورواته هنا .
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يكتفي بظاهر القوم، إن ظهر الإسلام بقرينة الأذان التي كانت خاصة بالمسلمين آنذاك، حكم بإسلام أهل القرية، ولم يكن يختبر كل واحد منهم ليعلم إسلامه من عدمه، وإذا لم تظهر قرينة تدل على إسلامهم، حكم لهم بالكفر.

بماذا يثبت الإسلام ؟ 

كما أسلفنا إنما الحكم بالظاهر، لذلك إذا أظهر المرء قرائن تثبت أنه مسلم، ولم يظهر ناقضا للإسلام حكم له بالإسلام، وهنا يجب مناقشة القرائن التي تثبت الإسلام، فهي تختلف من مجتمع إلى مجتمع، فمثلا كان المشركون يعظمون البيت الحرام ويحجون إليه، لذلك لم يعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج قرينة تنقل صاحبها من الشرك إلى الإسلام، كما اعتبر الأذان قرينة، لأنه في زمانه صلى الله عليه وسلم كان الأذان خاصا بالمسلمين، لذلك إذا كان المرء في مجتمع يظهر شعائر الإسلام ولكنه يقع في نوع من أنواع الشرك، لا تعتبر تلك الشعائر قرينة للإسلام في ذلك المجتمع حتى يتبرأ المرء من ذلك الشرك الذي يمارسه قومه ومن قومه المشركين أيضا.

شبهات وردود 

يحتج كثير من الناس بأحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل حديث ضمام بن ثعلبة وحديث الجارية، وليس لهم فيها حجة، لأن تلك الأحاديث إنما كانت تتحدث عن قرائن خاصة بالمسلمين آنذك، فلم يكن يوجد آنذاك من ينطق بالشهادتين ويمارس الشرك البواح في نفس الوقت، فكل من نطق بالشهادتين آنذاك كان يكف عن ممارسة الشرك إما إيمانا، وإما نفاقا، وكذلك كل من يعترف بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم آنذاك كان لا يمارس الشرك في الظاهر مطلقا، لذلك اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك القرائن كافية لإثبات الإسلام حينها، ولم يعتبر الحج برغم من كونه أحد أركان الإسلام لأن المشركين كانوا يحجون أيضا.
إن الذين يحتجون بتلك الأحاديث نقول لهم هل كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتي بالشعائر ويمارس الشرك في آن واحد كما هي الحال في زماننا؟ ولا مفر لديهم من الاعتراف بأن واقعنا يختلف عن واقع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ينبغي أخذ ذلك في الحسبان.
ثم إننا نقول لهم هبكم أن فلانا يعبد صنما ويكرر في نفس الوقت الشهادتين وهو لا يرى مناقضة الشهادتين اللتين يتلفظ بهما لعبادة الصنم الذي يعبد، هل تحكمون بإسلامه، أم ببقاءه على كفره أم بردته عن الإسلام؟ ولا سبيل لحكم ثالث، ولا يمكنهم عند النظر إلا الحكم بكفره لممارسته الشرك، فلو قالوا هو مسلم يكفرون لإقرارهم بعبادة الصنم، ولو قالوا هو مرتد قلنا لهم متى دخل الإسلام أصلا، وهو يرى أن عبادة الصنم لا تناقض الشهادتين ؟ 
فلم يبق لهم إلا أن يسلموا أن النطق بالشهادتين  والشعائر لم تعد قرينة في مجتمع يمارس الشرك مع ممارسته الشعائر.
كخلاصة لما سبق نقول يثبت الإسلام للمرء بما يظهر من قرائن تدل على إسلامه وعدم ممارسته للشرك بما فيها قرينة الدار، ويثبت الكفر أيضا بالقرائن إلا أنه يختلف عن الإسلام في كونه يثبت بمجرد الدعوى أو الممارسة من دون إكراه، فمن قال أنه كافر أو فعل الكفر دون أن يكون مكرها كفر.
author-img
داعية يحاول تقفي أثر الأنبياء في الدعوة

تعليقات

فهرست المقال